لم تكن السقوف المشدّدة التي فرضتها المصارف على سحوبات زبائنها بالليرة الإجراء الوحيد الذي استجدّ، بعد أن قرّر مصرف لبنان تقنين السيولة بالعملة المحليّة التي يسلّمها للنظام المصرفي. فخلال الفترة الماضية، اتخذت المصارف تباعاً مجموعة إجراءات جديدة يبدو أنّها تستهدف التعامل مع شحّ السيولة بالليرة اللبنانيّة، وتقليص الطلب عليها من قبل الزبائن. في بعض المصارف، صار فتح حسابات التوطين أو تقاضي الرواتب بالشيكات متعذّراً، فيما أصبح سحب الأموال نقداً على الصندوق مسألة صعبة في كثير من الأحيان. باختصار، تحوّل القيام بأبسط المعاملات المصرفيّة إلى مسألة معقّدة.
عمليّاً، ثمّة تعميم صادر عن لجنة الرقابة على المصارف، يطلب من جميع المصارف الامتناع عن فرض تجميد الشيكات التي يقوم الزبائن بإيداعها في حساباتهم. هذا التعميم صدر كردّة فعل على لجوء المصارف في فترة من الفترات إلى هذا النوع من الشروط في ما يخصّ الشيكات بالعملات الأجنبيّة، أي إجبار المودعين على تجميد قيمة هذه الشيكات بعد إيداعها في الحسابات، في محاولة لتقليص حجم السحوبات النقديّة التي يقوم بها الزبائن من حساباتهم الدولاريّة، ولو كانت هذه السحوبات تجري بالليرة اللبنانيّة وفقاً للتعميم 151، أي بحسب سعر صرف المنصّة.
التزمت المصارف في البداية بتعميم لجنة الرقابة، وتوقّفت عن فرض هذا النوع من الشروط. لكن ما إن بدأت أزمة السيولة بالليرة اللبنانيّة، حتّى عادت المصارف للتحايل على تعميم لجنة الرقابة من خلال إجراءات مختلفة، لكنّها تحقّق النتيجة نفسها. لم تعد المصارف تشترط تجميد الرصيد بالدولار الأميركي بعد إيداعه بموجب شيكات، لكنّها بدأت تضع شروطاً أخرى من قبيل الامتناع عن منح العميل سقفاً للسحب النقدي وفقاً لسعر المنصّة، إلى أن تمرّ ثلاثة أو ستة أشهر على إيداع الشيك. وبما أنّ الغالبيّة الساحقة من المحلات التجاريّة باتت ترفض الدفع بالبطاقات المصرفيّة على أنواعها، فنتيجة الإجراء باتت مشابهة للشروط السابقة، التي كانت تفرض تجميد الرصيد لفترة زمنيّة قبل السماح بالسحب.
ما إن بدأت أزمة السيولة بالليرة اللبنانيّة، حتّى عادت المصارف للتحايل على تعميم لجنة الرقابة من خلال إجراءات مختلفة، لكنّها تحقّق النتيجة نفسها
أكثر المتضرّرين من هذه الإجراءات هم الموظفون الذين اعتادوا تقاضي رواتبهم بالدولار بموجب شيكات. بالنسبة لهؤلاء، لم يعد من الممكن حتّى سحب قيمة رواتبهم بالليرة اللبنانيّة ووفقاً لسعر المنصة إلا بعد أشهر من قبض الراتب. أما البديل بالنسبة لهذه الفئة، فلم يكن سوى بيع الشيكات الدولاريّة في السوق السوداء، بسعر يقارب الثلاثة آلاف ليرة للدولار الواحد، في مقابل سعر صرف المنصّة الذي يوازي حدود 3900 ليرة للدولار، الذي كانوا يستخدمونه سابقاً لسحب قيمة رواتبهم بالليرة قبل فرض هذه الإجراءات. مع العلم أنّ المصرف يترك للعميل خيار سحب المبلغ وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم، أي 1515 ليرة مقابل الدولار، لكنّ العملاء في العادة لا يأخذون بالتأكيد هذا الخيار بعين الاعتبار لكونه ينطوي على خسارة كبيرة.
أزمة الرواتب طالت كذلك الكثير من الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانيّة، وتحديداً أولئك الذين يحاولون فتح حسابات مصرفيّة جديدة لهذه الغاية. فالكثير من المصارف عمدت – ومنذ بروز أزمة شحّ السيولة بالليرة – إلى استحداث إجراءات بيروقراطيّة بتعقيدات إضافيّة قبل فتح أيّ حساب مصرفي جديد، خصوصاً حسابات توطين الرواتب، بغض النظر عن عملة الحساب. مع العلم أنّ المصارف باتت تعتبر أنّ أيّ حساب توطين جديد لن يمثّل بالنسبة إليها سوى ضغط إضافي على السيولة المتوفّرة لديها بالليرة اللبنانية من خلال استخدام سقف السحوبات الخاص بالحساب.
وتشير مصادر مصرفيّة لـ”أساس” إلى أنّ بعض الإجراءات والتعقيدات التي جرى فرضها قبل فتح الحسابات الجديدة بلغت حدّ طلب موافقات خطيّة من إدارات المصارف العليا قبل فتح أيّ حساب، بهدف الحدّ من عدد الحسابات الجديدة التي يقوم كلّ فرع بفتحها.
أزمة الرواتب طالت كذلك الكثير من الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانيّة، وتحديداً أولئك الذين يحاولون فتح حسابات مصرفيّة جديدة لهذه الغاية
بالإضافة إلى كلّ ذلك، بدأت بعض المصارف بفرض قواعد جديدة في كلّ ما يتعلّق بالسحوبات النقديّة، من قبيل منع السحب النقدي بالليرة على الصندوق، واشتراط إجراء هذه السحوبات على ماكينات السحب الآلي. مع العلم أنّ المصارف نفسها باتت تمارس التقنين في عمليّة تعبئة هذه الماكينات، بهدف الحدّ من عمليات السحب هذه قدر الإمكان. ومن الظواهر التي باتت مألوفة في هذه المصارف بالتحديد، مشهد ماكينات الصرف الآلي الفارغة في ساعات الليل المتأخّرة، أو خلال فترة العطلة، وهو ما بات يتسبّب بمشاكل يوميّة لعملاء هذه المصارف. مع العلم أنّ بطاقات السحب الخاصّة ببعض المصارف لم تعد تعمل على ماكينات السحب الخاصّة بمصارف أخرى، وهو ما ضاعف من حجم هذه المشكلة بالتحديد.
إقرأ أيضاً: عملة سلامة الرقمية: الهرب من الإصلاح وتنظيف الدفاتر؟
في كلّ الحالات، يشير متابعون إلى أنّ هذه الإجراءات، خصوصاً مسألة تعقيد فتح الحسابات الجديدة وفرض شروط على إيداع الشيكات، لا تهدف فقط إلى الحدّ من عمليات السحب التي باتت تضغط على السيولة التي بحوزتها، بل أيضاً إلى تقليص حجم الودائع الموجودة لديها. فشروط إعادة الرسملة التي وضعها مصرف لبنان باتت تفرض على المصارف الاحتفاظ بنسبة معينة من موجوداتها كسيولة في المصارف المراسلة. لذلك لم تعد المصارف مهتمّة بفتح حسابات جديدة أو تلقّي ودائع جديدة بالشيكات، كون ذلك سيعني ببساطة زيادة حجم الودائع أي زيادة قيمة الدولارات الطازجة التي ينبغي أن تحتفظ بها في المصارف المراسلة.
بإختصار، باتت المصارف اليوم في موقع النقيض لدورها الطبيعي، فلا هي مهتمّة باستقطاب المودعين، منذ أن صار المودع وسيولته عبئاً عليها، ولا هي قادرة على منح التسليفات. وطالما أنّ الانهيار المالي مستمر في البلاد، فستبقى المصارف اللبنانيّة في هذا الموقع الغريب عن الأدوار الطبيعية للقطاع المصرفي.