عملة سلامة الرقمية: الهرب من الإصلاح وتنظيف الدفاتر؟

مدة القراءة 7 د


يشكّل إعلان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اعتزامه إطلاق عملة رقمية، في الظروف الراهنة، نصف ورقة نعي للبنوك ولدورها في “الوساطة المالية”، (disintermediation). يشكّل الأمر اعترافاً ضمنياً بأن البنوك فقدت ثقة العملاء، ولا سبيل لحلّ المشكلة إلا بإيجاد سوق للتداول النقدي وحفظ المدخرات خارجها.

لكن هل تشكّل العملة الرقمية حلّاً؟ أم هي مغامرة كبرى تعيد إلى الذاكرة تجربة مريعة لزيمبابوي منذ سنة في هذا المجال؟

ليس مصرف لبنان الوحيد الذي يدرس إطلاق عملة رقمية، بل هذه حال معظم البنوك المركزية في العالم، وإن بدرجات متفاوتة من الجدّية والاستعجال، ولأسباب لا تشبه الأسباب اللبنانية. وبات مفهوم “العملة الرقمية المصدرة من بنك مركزي” (Central Bank Digital Currency- CBDC)، محور بحوث كثيرة من المؤسسات المالية الدولية، لا سيما صندوق النقد الدولي وبنك التسويات الدولية.

إطلاق عملة رقمية في بلد يعاني أزمة مصرفية كبيرة سيخلق سوقاً سوداء إضافية لليرة البنوك مقابل الليرة الرقمية

الفكرة تقوم باختصار على توفير “تمثيل رقمي” للعملة السيادية، أي أنّها تقوم في المقام القانوني مكان العملة الورقية تماماً، وتختلف عنها فقط من حيث التقنية المساندة وطريقة التداول. لكن الفارق الأساسي بين العملة التقليدية (fiat money) والـ CBDC أنّ هذه الأخيرة يطرحها البنك المركزي مباشرة في السوق عبر الوسائط الرقمية، ولا تحتاج إلى وساطة البنوك لنقلها إلى أيدي الناس.

وتختلف العملة الرقمية التي يتحدّث عنها سلامة تماماً عن الأشكال الأخرى من التداول الرقمي مثل “الأموال البنكية” (b-money)، كتلك الأموال المتداولة ببطاقات الائتمان والسحب المصرفية، وكذلك “الأموال الإلكترونية” (e-money)، ومن أشكالها الرصيد الذي يوضع في محافظ الزبائن لدى شركات التجارة الإلكترونية العالمية مثل “أمازون” و”علي بابا”، وحتى “بلاي ستايشن”. فهذه الأموال البنكية والإلكترونية لا بدّ أن تكون مربوطة مباشرة بالأموال المتعارف عليها (fiat money). أما العملة الرقمية التي يتحدّث عنها سلامة (CBDC)، فتشبه النوعين السابقين في الشكل التقني، لكنها تختلف جذرياً في المضمون.

ثمّة أسباب كثيرة تدفع البنوك المركزية إلى التوجّه نحو العملة الرقمية، إصداراً أو ترخيصاً، يعنينا منها هنا “الشمول المالي” (financial inclusion)، والمقصود به شمول الخدمات المالية لأكبر عدد ممكن من السكان. ففي البلدان المترامية الأطراف أو ذات الكثافة السكانية العالية يصعب على البنوك فتح حسابات لعشرات الملايين من صغار الكسَبَة أو العمال ذوي الدخل المنخفض، كما يصعب على الحكومات توفير الدعم للفئات الأكثر حاجة ضمن شبكات الأمان الاجتماعي. ولذلك يكون البديل بأشكال من الأموال الرقمية الشبيهة بالبطاقات التي تصرفها “الأمم المتحدة” للاجئين السوريين.

ما يتحدّث عنه سلامة يصبّ في إطار “الشمول المالي” أكثر من أيّ إطار آخر. فهو يشير إلى تحوّل الناس إلى الاقتصاد الورقي، وتخزين النقد في البيوت، والعزوف عن التعامل مع البنوك. وهو لذلك يريد أن يوفّر بديلاً للبنكنوت، لأسباب قد لا تقتصر على الاعتبارات المحلية، بل تتعدّاها إلى النزعة العالمية للحدّ من استخدام النقد الورقي، الذي يصعب تتبّع المنظمات والأيادي التي تتداوله.

الكتلة النقدية المتداولة زادت 300% خلال سنة، لكن قيمتها الحقيقية تراجعت 20% بفعل التضخم المفرط

إلا أنّ تشخيص سلامة للأزمة يبقى محلّ نظر، فهو يفترض أنّ النقد المخزّن في المنازل يقدّر بعشرة مليارات دولار (لم يوضح إن كان يقصد النقد بالليرة فقط أم أنه شمل النقد بالدولار في هذا الرقم أيضاً). وربما يستند هذا التقدير إلى حجم الكتلة النقدية المتداولة، والتي تشير آخر البيانات المتوفّرة من مصرف لبنان لشهر أيلول 2020 إلى أنها باتت تتجاوز 22 تريليون ليرة، أي ما يقارب 14.7 مليار دولار وفق السعر الرسمي (1507.5 ليرة للدولار). وهذا الرقم يشكل زيادة بنحو 300% عن أيلول 2019، أي قبل أسبوعين من ثورة 17 تشرين الأول 2019، حين كانت الكتلة النقدية حينها تعادل 5.57 تريليون ليرة، أو 3.7 مليار دولار.

لكن هل يمكن اعتبار الزيادة في الكتلة النقدية المتداولة أموالاً مخزنة في المنازل؟ خطأ. فالمعروف في أساسيات علم النقد أنه في فترات التضخم المفرط، تزداد الكتلة النقدية المتداولة اسمياً، لكن قيمتها الحقيقية تتراجع، أي يصبح لدينا نقدٌ أكثر بقيمة أقل. وبمراجعة الأرقام السالفة الذكر وفق سعر الصرف السائد في السوق الموازية، تراجعت القيمة الحقيقية للنقد المتداول (بالليرة) إلى ما يعادل ثلاثة مليارات دولار تقريبا، أي أقل بنحو 20% مما كان عليه قبل سنة، بفعل التضخم المفرط.

هذا لا يلغي أنّ الناس تحوّلوا بالفعل إلى الاقتصاد الورقي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ولا شكّ بأن هناك كتلة كبيرة من النقد الأجنبي المخزّن في البيوت، يصعب على مصرف لبنان تقديرها على وجه الدقة، لأنه ليس الجهة التي تصدر الدولار.

العملة الرقمية تؤدي إلى فقدان البنوك لدور “الوساطة المالية” مع تحوّل المودعين إلى الوعاء الجديد للتداول وحفظ المدخرات

المشكلة الأخرى في مقاربة سلامة للحلّ أنها تعكس يأساً من إعادة هيكلة البنوك. فالعديد من الدراسات تشير إلى أنّ من مخاطر الـ CBDC أنها قد تؤدي إلى فقدان البنوك لدور “الوساطة المالية” في الاقتصاد، خصوصاً وأنها تؤدّي في الغالب إلى تحوّل الناس من إيداع الأموال في البنوك إلى تخزينها في هذا الوعاء النقدي الرقمي، خصوصاً إذا ما أدخله البنك المركزي في منظومة الفائدة. وذاك توجّه خطر في بلد ما زالت الودائع المصرفية فيه تفوق ثلاثة أضعاف الناتج المحلي. ثمّة بديل أفضل وأكثر جدوى، هو المباشرة بتأهيل بنكين أو ثلاثة لتصنّف كـ “بنوك جيّدة”، بعد استيفاء معايير معيّنة من حيث كفاية رأس المال وجودة الأصول، ليتوفّر في البلد حدّ أدنى من الكيانات القادرة على تأدية الوظيفة المصرفية (functional) في مرحلة انتقالية، بدلاً من إبقاء القطاع بكامله في حالة البنوك الشبحية (zombie banks).

وتبقى المشكلة الأكبر أنّ إطلاق عملة رقمية في بلد يعاني أزمة مصرفية كبيرة سيخلق سوقاً سوداء إضافية لسعر الصرف، فليرة العملة الرقمية لن يكون سعرها كسعر ليرة الصرّافين أو ليرة الوديعة المصرفية. وبطبيعة الحال لن تكون الليرة المحبوسة في وديعة بنكية مساوية لليرة الرقمية، وبالنتيجة ينشأ تداول مخصوم للودائع مقابل النقد الرقمي. وثمّة خطر جدّي من أن تطلق العملة الرقمية موجة جديدة من التضخم، كما حصل في زيمباوي التي أطلقت عملة الـ RTG بنسخة رقمية منتصف العام الماضي، لتدخل البلاد بعد ذلك بأسابيع قليلة في موجة من التضخم المفرط.

مصرف لبنان يدور حول الأزمة ويتحاشى الورشتين الضروريتين: إصلاح البنوك وتنظيف دفاتره

كل ذلك يقود إلى استنتاج بأن “مصرف لبنان” يدور حول الأزمة ويتحاشى الدخول في صلب المعالجة الملحّة، وقوامها ورشتان لا بد من المباشرة بهما على الفور:

1- ورشة إعادة هيكلة التزامات مصرف لبنان وتنظيف دفاتره. وهي تقتضي بالضرورة إنجاز التدقيق الجنائي وتقديم قوائم مالية شفّافة وموثوقة للرأي العام والمؤسسات الدولية. كما تقتضي إعلان سياسة واضحة في ما يتعلّق بالتزامات مصرف لبنان تجاه البنوك، وما إذا كان ينوي التعثّر في السداد، على غرار ما فعلت الدولة بسندات اليوروبوندز أم لا. فعلى أساس هذا القرار يتحدّد مصير ملاءة العديد من البنوك الكبرى، ومصير ودائع الناس.

2- ورشة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بدلاً من استمرار العبث بالمعايير المحاسبية والدولية، وبأسس تجنيب المخصّصات (المؤونات) لإخفاء الخسائر والعجوزات في حسابات رؤوس الأموال. وتبنى على هذه الورشة إمكانية تصنيف بضعة بنوك مستوفية لشروط العمل المصرفي الطبيعي.

إقرأ أيضاً: هل تسحب العملة الرقمية دولارات البيوت؟

ولا حاجة إلى القول إنّ ما جرى حتى الآن على صعيد إعادة رسملة البنوك ليس إلا ضرباً من التكاذب والخداع. إذ انقضت مهلتان لزيادة رؤوس أموال البنوك بنسبة 20% من دون أن ينجز شيء له معنى. وفاقم مصرف لبنان الوضع سوءاً بتعلمياته الأخيرة التي أتاحت تحويل زيادات رؤوس الأموال إلى عمليات تجميل للحسابات ولعب بالتقييمات العقارية.

يدرك رياض سلامة والمسؤولون جميعا أنه من دون هاتين الورشتين، وخصوصا الأولى منهما، لا أمل بأية مساعدة من صندوق النقد الدولي أو من الجهات المانحة، ولا أمل بعودة الودائع لأصحابها، ولو أطلقت ألف عملة رقمية، تبقى أصفارها على الشمال.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…