يصف المخرج الأميركي الشهير وودي آلن فنّ التمثيل وإخراج الأفلام بأنّه ليس سوى إلهاء جميل يشغل ممارسه عن الغرق في بلاهة الوجود وتفاهته ولا جدواه. جمالية الإلهاء تكمن في أنّ ورشة إدارة الممثّلين والتفكير في إخراج الفيلم يؤمنان انشغالاً يقي المرء من الاصطدام العنيف والحتمي بعبثية الحياة، ولكنها في الآن نفسه لا تضعه في مواجهة حاسمة معها، فإذا نجح الفيلم سيكون الأمر جيداً، وإذا ما فشل فإنه لن يموت.
منى واصف تعارض منطق المخرج الأميركي بشدة، فهي تقدّم في عملها نموذجاً نقيضاً لأفكاره. المشهد إما أن يكون كمالاً صافياً وحاسماً أو سيموت. كلّ لحظة تحضر فيها على الشاشة يكرّر أداءها المستحيل هذا الخطاب ويعمّمه، وكأنها لا تريد أن تقدّم سوى الخلاصات المكثّفة والموجزة والنهائية التي تخرج على هيئة وصايا مقطّرة، تقول كلّ شيء دفعة واحدة وتذهب بعيداً.
تفعل ذلك على الدوام. وفي كلّ مرة توحي لنا أنها استنفدت نفسها، وأنّ هذا الكثير والفائض الذي تعرضه قد وصل إلى نهايته وذروته. ولكنها تتعمّد خداعنا مرة تلو الأخرى، فتعيد تكرار المعجزات بشكل جديد ومختلف.
مشاهدة هذه السيدة فعل خطر، لأنّها أخرجت التمثيل من حدوده، وجعلته يسكن في خلفية المشهد بينما تتقدّم هي إلى واجهته.
مع غيرها قد نخاف ونحزن ونغضب، ولكنّنا سرعان ما نستيقظ من دوّامة المشاعر، لأنّنا نعرف بأنّ ذلك لم يكن سوى تمثيل. نستمتع بالبراعة والإخراج، قوّة الأداء ومهارة الإقناع، ولكنّنا لا نغرق.
منى واصف تعارض منطق المخرج الأميركي بشدة، فهي تقدّم في عملها نموذجاً نقيضاً لأفكاره. المشهد إما أن يكون كمالاً صافياً وحاسماً أو سيموت
ننجو من دوّامة التأثر بإحالتها إلى التمثيل بحدوده التي نعرف أنها لا تلامس الحقيقة، ولكنها تقلّدها وتزوّرها أو تصنع نسختها الخاصة منها. مع منى واصف لا مجال للنجاة. يسقطك حضورها في دوّامة حقيقية لا تستطيع الفرار منها بالادّعاء أنّ ذلك لم يكن سوى تمثيل.
تلعب هذه السيدة في ما بعد التمثيل من دون أية مبالغة، وتُدخل متلقّي حضورها في جملة من الحقائق المتنوّعة وفق مزاج شخصيتها وأهوائها، فلا يشعر بالخوف أو بالحزن أو بأي حزمة أخرى من المشاعر، بل يحياها.
دور الأم في مسلسل “الهيبة” في جزئه الرابع الذي يعرض حالياً على عدد من منصات العرض والشاشات المحلية والعربية يتراءى وكأنّه تركيب لطبقات مختلفة من الحالات تقود كلّ واحدة منها إلى شخصية مختلفة ومتناقضة.
سبق للسينما والتلفزيون تقديم شخصية الأم المتسلطة ذات الموقع المميّز والقائدة. ولكن غالباً ما كانت هذه الأدوار تمتاز بأنها تنطوي على ثنائية متعارضة، يُبنى الحدث الدرامي من خلالها من قبيل الخير والشر أو الطيبة والشراسة.
التوتر الدرامي في ذلك المستوى كان يمتلك خط سير واضح المعالم يصعب معه خلق المفاجآت واللعب في منطقة المدهش وغير المتوقّع. شخصية الأم في “الهيبة” ليست سوى نقطة تجميع لحشد كبير من الشخصيات، وهي أشبه بخزانة ترتدي فيها الشخصيات ملامحها وتعبر إلى تحوّلاتها المفتوحة.
إنها أم تنظر إلى حفيدها بحنان في وقت تتذكّر شخصيتها القائدة أنّه ابن شاهين خصم العائلة فتصرخ فيه. لا تقدّم واصف مثل هذا المشهد بفواصل زمنية تسمح بالانتقال الانفعالي، بل تقدّمه دفعة واحدة وبشكل متصل وموحّد، فلا يعود ممكناً الحديث عن شخصية محدّدة تقدّمها أو تؤدّيها، بل يمكن الحديث عن حالة تتناسل منها حالات وأمزجة وتتوالد شخصيات.
مع “جبل” تكون أماً، ولكنها تتعامل معه كمرجعية كذلك، وتقبل أن تهبه سلطاتها لأنّه يحافظ عليها ويتبع الأصول. حتى في هذا المجال الذي يبدو للوهلة الأولى علاقة واضحة المعالم، تنجح واصف في مراكمة جملة من التوظيفات المتعدّدة، وصبّها على علاقتها بابنها “جبل” شيخ الجبل بطل المسلسل وقائد “الهيبة”.
العلاقة معه تظهر وكأنّها تنفيذ لعقد مبرم غير معلن، لكنّه يمتلك متانة لا يمكن التهرّب من إلزاميتها. وبموجب هذا العقد يُمنح “جبل” المكانة الاستثنائية والمرجعية مقابل حفاظه على على مكانة العائلة ودورها، وليست تلك الثقة المطلقة بأنّه سيلعب هذا الدور دائما سوى نوع من الإيمان.
دور الأم في مسلسل “الهيبة” في جزئه الرابع الذي يعرض حالياً على عدد من منصات العرض والشاشات المحلية والعربية يتراءى وكأنّه تركيب لطبقات مختلفة من الحالات تقود كلّ واحدة منها إلى شخصية مختلفة ومتناقضة
إنها تحبّ “جبل” ابنها لأنّه يمثّل إيمانها الخاص، وهو لا يستطيع أن يخون هذا الإيمان أو يخرج عليه. هنا تختلط علينا طبيعة العلاقة بينها وبينه، فهل هو ابنها أو أسيرها أو خادم إيمانها؟
ليس “جبل” إذن مجرّد ابن يحتاج إلى الرعاية والإرشاد كما هو حال ابنها صخر وابنتها منى، بل إنّه الأب الحامي الذي يحمل روح سلطان شيخ الجبل زوجها المقتول، والقائد التاريخي للهيبة.
وجوده يمنع سلطان من الموت ويحييه ويجعله خالداً. إنّه النموذج النهائي للقائد، وواقع كونه ابنها سيمنحها القدرة على امتلاك سلطاتها وإدراجها في عداد ملكياتها الخاصة.
إقرأ أيضاً: ريما الرحباني: “بيي” أقوى من عبد الوهاب
الأصوات الجميلة كانت طاقية إخفاء يستخدمها كثير من الممثّلين لإخفاء أجسادهم وحركتهم لكي لا نراهم ونحكم عليهم إلا من خلال وسيط الصوت، وبذلك كانوا ظاهرة صوتية وحسب. أم “جبل”، المرأة العجوز حين تتوكّأ على عصاها وتخاطب جمهوراً ما، فإنّ العصا تدبّ فيها الحياة، ويحسّ المشاهد بأن كلّ شيء من تعابير وجهها إلى حركة جسدها قد بات ناطقاً باسم ذلك الصوت القادر على الحلول في المكان وتحويله إلى صدى يردّده ويضاعفه وينشره.
كان الملحن المصري الشهير كمال الطويل قد احتجّ خلال مقابلة أُجريت معه على وصف عبد الحليم حافظ بأنّه يغنّي قائلاً إنّ هذا التعبير فيه ظلم كبير. الأمر نفسه ينطبق على منى واصف. ظلم كبير أن نقول إنها تمثّل. إنّها ما بعد التمثيل، أو فلنقل إنّها مستقبله الذي ارتضى الإقامة في لحظتنا. يا لنا من محظوظين.