الحرب الباردة انتهت بانتصارين. أحدهما لم يكن لدى روسيا مشكلة فعلية معه كانتصار، وهو الانتصار الأيديولوجي على الشيوعية السوفياتية. بالعكس، فهي بالنتيجة من أطاح بهذه الشيوعية، أو بالأحرى قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي هي التي أطاحت بالشيوعية. ولا يزال معظم من يحكم جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ومن يمسك بالمفاصل، من مدرسة الحزب أو الشبيبة الملازمة له، الكومسمول، شأن فلاديمير پوتين نفسه، أو وريثاً بيولوجياً لقيادي من هذا الحزب، شأن إلهام ابن حيدر عالييف في أذربيجان.
أما الانتصار الثاني، فكان الانتصار الجيوبوليتيكي لإمبراطورية البحر على إمبراطورية البرّ، نتيجة لمحاصرة تمدّدات الأخيرة في الريملاند، ثم جرّها الى استنزاف نفسها في نقطة الوصل بين الريملاند والهارتلاند، أفغانستان. وهنا بالذات مثّل انهيار الاتحاد السوفياتي “كارثة جيوبوليتيكية” بالنسبة إلى روسيا، كارثة تحرمها المشاركة في النصر على الشيوعية التي صنعته بأيديها، و”بكل بساطة” بعدم اقتناع القيادات الشيوعية في الاتحاد السوفياتي بشيوعيتهم منذ سبعينيات القرن الماضي. هذا أوجد حالة تحسّر على المجد السوفياتي، مقروناً بالتحسّر على أمجاد روسيا القيصرية. لعب هذا دوراً في تقويض المسارات الديموقراطية. لكن الأخطر من هذا أنه دفع المؤسسة الحاكمة الروسية أكثر فأكثر إلى اعتناق أيديولوجية جديدة: الجيوبوليتيكا نفسها، الجيوبوليتيكا الصرف. بعد أن كانت هناك اعتبارات أيديولوجية تلحظ درجة تكيّفها مع المحدّدات الجيوبوليتيكية، جرى الانتقال إلى تخييط أيديولوجية جديدة من الجيوبوليتيكا نفسها.
الحرب الباردة انتهت بانتصارين. أحدهما لم يكن لدى روسيا مشكلة فعلية معه كانتصار، وهو الانتصار الأيديولوجي على الشيوعية السوفياتية. أما الانتصار الثاني، فكان الانتصار الجيوبوليتيكي لإمبراطورية البحر على إمبراطورية البرّ
لا يعني هذا أبداً أنّ الروس وقعوا في الوهم. بالعكس. النظرة إلى روسيا كعدو جيوبوليتيكي حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سيطرت على الإدارات الأميركية المتعاقبة. ليس لأن روسيا تشكّل هذا الخطر الوجودي فعلاً، بل لأن قيادة الولايات المتحدة للعالم مرتبطة باستدامة هذا الخطر، حتى وروسيا في موقع الضعف. يسمح لها إبقاء روسيا وجهة الخطر الأساسي بالمحافظة على الأحلاف الرسمية وغير الرسمية التي تقودها في أوروبا كما في آسيا. مع كلّ الأهمية المعطاة لصعود الصين، إلا أنّ النظرة الجيوبوليتيكية الغالبة أميركياً وغربياً لا تزال روسوفوبية أكثر منها صينوفوبية.
شلل العالم منذ 2014
لقد سعى ترامب إلى زيادة معدّل الصينوفوبيا الأميركية الرسمية. لكن حتى هنا، ومع سيل تصريحاته ضدّ القيادة الصينية بعد تفشّي جائحة كورونا، فإنه لم يتمكّن أن يحوّل هذه النقمة على الصين إلى كرة ثلج تكبر سواء في الداخل الأميركي أو على صعيد الغرب ككل. لم يستطع “تسييس” هذه الصينوفوبيا، مع أنها مجسّدة في حرب تجارية. لم تستطع الصينوفوبيا أن تنقذه في الانتخابات.
في المقابل، يعيش العالم منذ الحرب الروسية الجيورجية في صيف 2008، وبشكل أكثر خطورة منذ الضمّ الروسي لشبه جزيرة القرم في آذار 2014، في مرحلة محكومة أساساً بالتوتر بين واشنطن وبين موسكو، على خلفية عدم سماح موسكو مهما كلف الثمن، بتمدّد حلف شمالي الأطلسي إلى حديقتها جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، عدا دول البلطيق الثلاثة، وبالأخص عدم السماح بأطلسة أوكرانيا، التي لم تستوعب الحركة القومية الروسية أصلاً انفصالها عن روسيا، هي التي تأسّست فيها الفكرة الروسية.
وهكذا، فمجلس الأمن معطّل إلى حدّ كبير كمؤسسة منذ آذار 2014. وإذا استمرّت الحال على هذا المنوال، فسيعني ذلك عاجلاً أو آجلاً انهيار منظمة الأمم المتحدة. لا الغرب قادر على إعادة التطبيع مع روسيا بعد ضمّها القرم، ولن يوجد في المقابل أيّ روسي عاقل ليفكّر في التنازل عن القرم مجدّداً إلى أوكرانيا. وجود روسيا نفسها بالشكل الذي نعرفه مرتبط باستمرار ضمّها لشبه جزيرة القرم.
يعيش العالم منذ الحرب الروسية الجيورجية وبشكل أكثر خطورة منذ الضمّ الروسي لشبه جزيرة القرم في آذار 2014، في مرحلة محكومة أساساً بالتوتر بين واشنطن وبين موسكو
بايدن من زائر لبريجنيف إلى مُحيٍ للحرب الباردة
لقد خاض جو بايدن الانتخابات، في باب السياسة الخارجية، على أساس أنّ روسيا كما قال بالحرف، هي “التهديد الأكثر خطورة على الولايات المتحدة في الوقت الراهن”. هو الذي زار الاتحاد السوفياتي كسيناتور في الأعوام 1973 و1979 و1988، دعماً، في زيارتيه الأوليين، لاتفاق سالت – 2 لتخفيض الترسانة الاستراتيجية. وكان له عام 1979 تحديداً لقاء مع بريجنيف وكوسيغين. وربما يكون بايدن إيجابياً أكثر تجاه أفكار جديدة حول لجم التسابق على الأسلحة من جديد، بعد أن ساد الفترة السابقة عودة إلى هذا السباق، وخروج أميركي، قبل ترامب وبعده من الاتفاقات السابقة في هذا الشأن، إلا أنّ هذه الإيجابية، التي حاولت أن تعزف على وترها إدارة أوباما بتوقيعها على معاهدة نيو ستارت 2010، وبتحفيز أساسي من بايدن وقتها، (تنصّ على تخفيض نوعي للحدود القصوى للرؤوس الحربية الهجومية الاستراتيجية للبلدين، والحدود القصوى لآليات الإطلاق الاستراتيجية)، هي إيجابية هشّة يمكن أن يمتصها بسرعة المنحى الأساسي لرجعة التوتر مع روسيا من بابه الواسع.
إقرأ أيضاً: عن بايدن وروسيا والقوقاز وخارطة العالم (1/3): خلاف على تحديد العدو
وتحديداً بالنسبة إلى بايدن، تسود في أروقة الكرملين، على ما تظهره الأقلام الروسية، قناعة بأن الرجل تملّكه شعور معادٍ بشكل محموم لبوتين منذ رفض الأخير المشاركة في التدخل الحربي ضد ليبيا 2011، أي قبل سنوات من أزمة ضمّ شبه جزيرة القرم. ناهيك عن توقّعات عودة التعويل الأميركي على المعارضة الليبرالية في الداخل الروسي، وفي ظلّ وضع دقيق يتمثّل بمآل القيادة الروسية نفسها. فمنذ مطلع الألفية يمسك فلاديمير بوتين بالسلطة بشكل مطبق، وهو ما لم يحصل لأحد من قادة الاتحاد السوفياتي بعد وفاة جوزيف ستالين. من هذه الناحية، دونالد ترامب كان مريحاً أكثر. إذ كان يستهتر تماماً بحاجة أميركا إلى “السوفت پاور” أو القوة الناعمة، المتمثّلة بأثر النموذج الأميركي في العيش والدعاية الديموقراطية المستندة أساساً الى سبيل عيش هذه الديموقراطية الليبرالية داخل الولايات المتحدة. أراد ترامب جعل أميركا عظيمة من جديد، أي أراد إعادة اميركا نفسها، لكنه لم يؤمن أبداً بأهمية أمركة العالم. ثم عاد واستهتر بنموذج القوة الناعمة هذا غداة الانتخابات الأخيرة، مع استمرار رفضه الاعتراف بنتائجها، وهذا بالنسبة إلى حكام روسيا والصين هدية ثمينة منه، يراد الانتفاع منها منذ الآن قبل أن يحاول بايدن تشغيل ورقة القوة الناعمة للأميريكان لايف والدعاية الديموقراطية الليبرالية من جديد.