لم تنفع سياسة “التكتّم الشديد”، نزولاً عند رغبة الرئيس المكلّف سعد الحريري، بتقليص المسافة الفاصلة عن ولادة الحكومة. سياسة قادت مجدداً إلى دخول “الراعي الرسمي” الفرنسي “بشَحمه ولَحمه” مدار الدائرة المفرغة من دون أن يتمكّن حتى الآن من تذليل العقبات التي تحول دون إنطلاق القطار الحكومي.
آخر الكلام لدى مستشار الرئيس الفرنسي لشؤون الشرق الأدنى باتريك دوريل، الذي قاله في بعض الأحيان بأسلوب فجّ: “لا وقت لديكم، وإلا لن تجدوا أحداً الى جانبكم. ومن يعاند الحلول المتاحة سيقابل من جانبنا بالسلبية”، مشيراً الى أنّ “وزارة الطاقة حقيبة استراتيجية وأساسية وهي من حصّة الفرنسيين (قاصداً إسم الوزير وإدارة حلّ أزمة الكهرباء”!
تؤكّد مصادر مطلعة لـ”أساس” أنّ الموفد الرئاسي لم يقل شيئاً جديداً حين نادى بحكومة “تنال موافقة الجميع”، كونها الوجه الآخر لحكومة “الوحدة الوطنية” التي تحدّث عنها الرئيس إيمانويل ماكرون وأعطيت تفسيرات أكثر من حجمها. فيما الترجمة الفرنسية واضحة منذ البداية: “حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين تنال غطاء القوى السياسية كي تعمل وتنتج”. وهو بالطبع التوجّه الفرنسي الذي أعاق الحريري أكثر مما أفاده كونه أطلق العنان لمطالب الأحزاب من فوق الطاولة.
أما العائق الآخر المستجدّ فعكسته تصريحات وتسريبات قيادات عونية بأنّ الموفد الفرنسي عمّم أجواءً في اليومين الماضيين بأنّ الإدارة الاميركية تتعمّد فرض عقوبات لعرقلة تأليف الحكومة، وهي تفعل ذلك كلمّا لمست تقدّماً على مستوى تذليل العقبات. يتقاطع ذلك مع معطيات تفيد بأنّ الجانب الفرنسي بات يسلّم بصعوبة المهمّة الملقاة على عاتق ماكرون في حال لم يحصل تسهيل حقيقي من جانب الاميركيين خصوصاً في سياق تغطية الحكومة المقبلة ورفع “الحظر” عن المساعدات المالية.
الموفد الرئاسي لم يقل شيئاً جديداً حين نادى بحكومة “تنال موافقة الجميع”، كونها الوجه الآخر لحكومة “الوحدة الوطنية” التي تحدّث عنها الرئيس إيمانويل ماكرون وأعطيت تفسيرات أكثر من حجمها
العقد معروفة ومُعلنة وتختزن في عناوينها تفاصيل كفيلة بترحيل الحكومة أشهراً عديدة، إذا لم يتزحزح أولياء التأليف من مربعاتهم أو إذا لم تأتِ “التَعليمة” من وراء الحدود.
لكنّ المؤكد أنّ ثمّة واقعاً غير مألوف وغير مسبوق يواجه سعد الحريري: الرجل بات يتعامل مع أربع قوى سياسية: من رئيس مجلس النواب إلى حزب الله وجبران باسيل وسليمان فرنجية، جميعها مدرجة، عبر “رموزها”، على لائحة العقوبات الأميركية المتأرجحة بين “أوفاك” و”ماغنتسكي”، وهو يعيش قلقاً حقيقياً من تسريبات تشير إلى احتمال إدراج شخصيات لصيقة به على لائحة العقوبات.
حكومة “المُعاقبين” أميركياً لن تكون ولادتها سهلة خصوصاً حين لا يزال “الفأر يلعب في عبّ” رئاسة الجمهورية وباسيل بأنّ “الأمور منتهية” بين الطرف الشيعي والرئيس المكلّف في ما يتعلّق بالحقائب والأسماء والعدد!.
باستثناء “التمنّي” بالإسراع بتأليف الحكومة والتأكيد على شراكة رئيس الجمهورية مع الرئيس المكلّف في التشكيل، لم ينخرط حزب الله منذ تسمية الحريري بأيّ نقاش علني يقود إلى مواجهة مباشرة مع بيت الوسط، الأمر المرجّح أن يستمر حتى بعد صدور العقوبات بحق باسيل.
وهو واقعٌ انعكس في الخطاب الأخير للسيّد حسن نصر الله وفي بيان “كتلة الوفاء للمقاومة” وكلام النائب محمد رعد في ظل تأكيد مطّلعين أنّه “بعد تثبيت حقيبة المال للطرف الشيعي قبل اعتذار مصطفى أديب، اتّخذ القرار لدى حركة أمل وحزب الله بالانكفاء الكلّي عن الواجهة مع التسليم بالتسهيل في ما يتعلّق بالأسماء، على قاعدة “هذه الاسماء واختر من شئت”. المواجهة الفعلية كانت ولا زالت بين سعد الحريري وجبران باسيل.
هذا ما يدركه الفرنسيون وعلى أساسه طلب الحريري “النجدة” من الإليزيه بالتزامن مع قرار صدور العقوبات الأميركية بحقّ باسيل فكان قرار ماكرون بإرسال مستشاره إلى بيروت والذي سمع بدوره تأكيداً من جانب رئيس الجمهورية بأنّ “العقوبات على باسيل أثّرت بشكل مباشر على تشكيل الحكومة”، مع تليمحه إلى مراهنة الحريري على هذه الخطوة الاميركية لتحصيل مكاسب داخل الحكومة.
حكومة “المُعاقبين” أميركياً لن تكون ولادتها سهلة خصوصاً حين لا يزال “الفأر يلعب في عبّ” رئاسة الجمهورية وباسيل بأنّ “الأمور منتهية” بين الطرف الشيعي والرئيس المكلّف في ما يتعلّق بالحقائب والأسماء والعدد
وقد تُرجم ذلك في مؤتمر باسيل الأخير الذي كشف فيه عن جانب مستور في علاقته مع الحريري وذلك من خلال أمرين:
الأول: “فضحه” التمايز في موقف الحريري بين صيف 2018 مع بدء الحديث عن العقوبات بمرحلة تأليف حكومة الحريري الثانية: “يلّي عملت فيها وزير بسبب إصرار من الحريري نفسه”، وتبلّغه من “أحدهم بأن أكون وزير خارجية لأنّ الحصانة الدبلوماسية للموقع تمنع فرض عقوبات”. ومن ثم عند انقلاب الحريري على موقفه برفض وجود باسيل معه في الحكومة بعد تقديم استقالته في 29 تشرين الاول من العام الماضي، ملمّحاُ بذلك الى قرار الحريري بركوب موجة الشارع أو تلقي ايعاز خارجي بتحييد نفسه.
الثاني: مجاهرة باسيل بـ”مراهنة الحريري على العقوبات وعلى الوضع الاقتصادي ليسمح لنفسه بتسمية الوزراء المسيحيين في الحكومة”.
إقرأ أيضاً: باتريك دوريل: “شيخ صلح” بين الحريري وباسيل
وفق مطلعين، كان باسيل أمس الأكثر صراحة بين من التقاهم دوريل في فلش أوراق الحكومة بتفنيده مكامن الخلل، برأيه، عبر عدم اعتماد المعيار الموحّد داخل الحكومة أولاً عبر استثناء حقيبة المال من المداورة، وثانياً عبر تحمّل الحريري مسؤولية إقصاء أكبر كتلة نيابية عن إعطاء رأيها في الحقائب والأسماء وعدم الاعتراف الأحجام داخل الحكومة، وهو الأمر الذي سبق أن أكّده رئيس الجمهورية أمام الزائر الفرنسي.