فاز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة. فازت كامالا هاريس بمكان في التاريخ: ابنة العائلة المهاجرة من أبٍ إفريقي وأمٍ هندية، هي أوّل امرأة سمراء تشغل منصب نائب لرئيس أميركا، وهو سبب أساسي، لكنّه ليس وحده ما يجعل اسم كامالا هاريس ذائعاً على نحوٍ غير مسبوق، في مقارنة قريبة مع سلفيها مايك بنس وجو بايدن الذي أصبح رئيساً.
من المرجّح أن يعيد التاريخ نفسه بعد ولاية بايدن. ففيما يستبعد أن يتبوّأ بايدن البالغ 77 عاماً الرئاسة لأكثر من ولاية واحدة، فإنّ هاريس (56 عاما) تمتلك الحظ الأوفر في الفوز بترشيح الحزب الديموقراطي خلال السنوات الأربعة المقبلة. وهذا يمكن أن يمنحها فرصة أكبر في دخول التاريخ مجدّداً ومن باب أعلى، كأول رئيسة، إمرأة وسمراء، للولايات المتحدة.
الحدث الأخير ليس أول ما يجعل هاريس “أوّل” امرأة سمراء في مكان حسّاس ورفيع. الطليعية لازمت مسيرة هاريس التي ولدت في كاليفورنيا عام 1964، وعملت كأول مدّعية عامة سمراء لولاية كاليفورنيا (عام 2010)، وأول سمراء تنتخب نائبة عامة في كاليفورنيا، وأكبر محامٍ ومسؤول عن إنفاذ القانون في أكثر الولايات الأمريكية كثافة، وأوّل متحدّرة من جنوب آسيا تفوز بمقعد في مجلس الشيوخ الأميركي (عام 2016). وشغلت عضوية لجان مهمّة من ضمنها اللجنتان القضائية والمالية، ولجنتا الأمن الداخلي والاستخبارات.
انسحبت هاريس من الانتخابات التمهيدية في كانون الأول 2019، لأنّها لم تنل أصوات الديمقراطيين الذين أخذوا عليها أنّ طلاقتها الباذخة خانتها في دوافع الترشيح، وعدم إحاطتها الكافية بالملفّ الصحي، بالإضافة إلى اقتراب نفاد موازنة حملتها.
اللافت أنّ بايدن كان منافسها الألدّ الذي هاجمته مراراً للحصول على مباركة الحزب، إلا أنّها أيّدته إثر انسحابها، ووصفته في آذار الماضي بأنّه “قادر على توحيد الشعب الأميركي”، وهو جدير في إصلاح ما أفسده ترامب الذي اتهمته بـ”الفشل في قيادة البلاد، والتسبّب في فقدان أرواح ووظائف”. وخلال مناظرتها الوحيدة ضدّ نائبه مايك بنس، رفعت هاريس يدها عندما حاول مقاطعتها قائلة بحزم: “السيد نائب الرئيس، أنا أتكلّم، أنا أتكلّم”، ما أجبره على السكوت. وفي غضون ساعات، انتشرت قمصان طُبعت عليها عبارة “أنا أتكلّم” تُباع على مواقع الإنترنت.
انسحبت هاريس من الانتخابات التمهيدية في كانون الأول 2019، لأنّها لم تنل أصوات الديمقراطيين الذين أخذوا عليها أنّ طلاقتها الباذخة خانتها في دوافع الترشيح، وعدم إحاطتها الكافية بالملفّ الصحي، بالإضافة إلى اقتراب نفاد موازنة حملتها
في الشكل والمضمون، حصلت هاريس على لقب “النسخة النسائية لباراك أوباما”، على ما يناديها مؤيدو الرئيس السابق، الذي أشاد بدوره باختيارها في هذا المنصب، فهي “أكثر من مؤهّلة لشغله”.
وفي هذا الصدد، علّق جويل باين، المخطط الاستراتيجي الديمقراطي الذي صمّم حملة هيلاري كلينتون الرئاسية عام 2016، بأنّ “هاريس تمتلك القدرة على مساعدة بايدن في توحيد التحالف الديمقراطي عبر خطوط الأعراق والأجيال، كما أنّها استطاعت رفع درجة الحماسة على مستوى القاعدة”.
قد يتماثل انتخاب كامالا هاريس مع انتخاب جو بايدن في الأهمية، بل يتجاوزه صعوداً، حين يبدو بايدن بديلاً أفضل من الرداءة المطلقة المتمثّلة في ترامب، لكنه، أي بايدن، بقي حتى اللحظة الأخيرة، شخصية عادية ذات خصوصية مائعة. أما نائبته هاريس، فتمتلك شخصية سياسية سبقت اللقب. نشأة قاهرة، ثم نضال ذاتي ينطوي على تجسيد التنوّع، والنسوية، وإنصاف الأقليات، والتعاطف مع المسلمين، وحماسة كبيرة لإسرائيل.
علاوة على مسألة العرق، يبرز جلياً تأثّر هاريس بأدبيات أوباما أثناء حملته، فها هي صيغة “نحن” وكلمة “أمل” و”شكرا” تلازم تغريداتها على تويتر، بخلاف “الأنا” المتضخّم والانهيارات المعنوية التي وقع فيها ترامب. وبمعزل عن هذه الوصفة الأوبامية في كسب الجماهير، تتقن هاريس استخدام “قوة ناعمة” في ابتسامتها، لا يمكن سوى أن تستدرج للذاكرة وزيرة الخارجية السابقة السمراء كوندوليزا رايس كنقيض لها.
فور فوزها، غرّدت كامالا هاريس: “الآن يبدأ العمل الحقيقي. للتغلّب على الوباء. لإعادة بناء اقتصادنا. لاقتلاع العنصرية المنهجية في نظامنا القضائي ومجتمعنا. لمواجهة المناخ، لشفاء روح أمتنا. الطريق أمامنا لن يكون سهلاً. لكنّ أميركا مستعدة. وكذلك جو بايدن وأنا”، في تذكير بالخطوط العريضة التي رسمتها مع بايدن الذي تعهّد بجعل بلاده “محترمة في العالم مجدّداً”، كما يعتزم “تجميع الولايات المتحدة لا تقسيمها”.
كأنه ونائبته يدغدغان حلم الشعب الأميركي باستعادة “وعاء الصَّهْر” (The Melting Pot) الذي نشأ عليه الكيان الأميركي الحديث وتحقيق “الحلم الأميركي” في كلّ القضايا الاجتماعية والعرقية والأقلوية.
إلا أنّ هاريس واجهت انتقادات واسعة من أبناء جلدتها بسبب سياستها المتشدّدة تجاه الاتجار بالمخدّرات، والتي أدّت إلى سجن آلاف الأميركيين الأفارقة. وهو صدع تعمّد بايدن رأبه في تغريدة جاء فيها أنّ “الأميركيين الأفارقة وقفوا معي ودعموني. وأنا بدوري سأدعمهم”.
ولا بدّ من التقاط الوجه النسوي كأحد أبرز نقاط قوة هاريس، في بيئة تعجّ بنضال الأمهات العازبات بسبب الانفصال أو الطلاق أو الولادات غير الشرعية. انطلقت هاريس لملاحقة طموح مهني عظيم، لتتزوّج في عمر الـ48 من دوغ إيمهوف، وهو محامٍ يهودي من لوس أنجلوس، وأب لولدين من زواج سابق.
تشكّل إلهاماً للسيدات بأنّ الحقيقة الوحيدة هي اللامستحيل في “بلد الممكن” على حدّ وصفها لأميركا. ذلك أنّه بعد انفصال والديها، نشأت هاريس في كنف والدتها الهندوسية العازبة، شيامالا غوبالان، وهي باحثة في مجال علاج السرطان، وناشطة مدنية، وعلمت لاحقاً في جامعة “ماكغيل” العريقة في كندا، حيث هاجرت برفقة كامالا وشقيقتها الصغرى مايا.
هاريس واجهت انتقادات واسعة من أبناء جلدتها بسبب سياستها المتشدّدة تجاه الاتجار بالمخدّرات، والتي أدّت إلى سجن آلاف الأميركيين الأفارقة. وهو صدع تعمّد بايدن رأبه في تغريدة جاء فيها أنّ “الأميركيين الأفارقة وقفوا معي ودعموني. وأنا بدوري سأدعمهم”
كتبت كمالا في سيرتها الذاتية التي صدرت عام 2019 تزامناً مع حملتها في كتاب بعنوان “الحقيقة التي نمسك بها… رحلة أميركية”: “الحقيقة هي أنّ والدتي أدركت جيداً أنها كانت تربّي ابنتين سوداوين”، وأضافت: “كانت تعلم أنّ موطنها الجديد الذي قرّرت الانتماء إليه، سينظر إلي ومايا على أننا فتاتان سوداوان، لكنها كانت تصرّ على التأكّد من أنّنا سنصبح امرأتين سوداوين واثقتين وفخورتين بنفسيهما”.
وكان هذا الكتاب الثالث ضمن مؤلفات هاريس بعد إصدارها في العام نفسه “الأبطال الخارقون في كلّ مكان” برسائل أخرى محفّزة، و”ذكي في الجريمة” عام 2009، وقاربت من خلاله علم الجريمة والإصلاحات الأمنية بتصوّر جديد.
إقرأ أيضاً: ملامح إدارة بايدن: أوباما مع “فوتوشوب”
خارجياً، كانت هاريس تجسّد الصوت المعارض للانتهاكات ضدّ المسلمين. عارضت بصرامة قرار ترامب حظر دخول المسلمين من عدة دول في كانون الثاني 2017، وتعارض سياسات الصين تجاه حقوق الإنسان، أبرزها المتعلّقة بمسلمي الإيغور.
وبخصوص الصراعات في الشرق الأوسط، تؤيد حلّ الدولتين في فلسطين كمعادلة لإنهاء الصراع مع إسرائيل. ويسجّل لها في مؤتمر منظمة “أيباك”، وهو أكبر لوبي إسرائيلي في الولايات المتحدة، أنها عبّرت عام 2017 عن استهجانها لبناء مستوطنات في أراضي الضفة الغربية.
أخيرا، وفي صورة اختارها موقع LitHub، وهو عيّنة عن الصحافة الأميركية التي تتنافس في إظهار تمايز هاريس ودورها في الرئاسة، تقف كامالا هاريس في الواجهة الأمامية ووراءها يقف الرئيس بخطوات، وملامحه تغشاها الضبابية. إلا أنّ الرئيس ونائبه سعيدان، يضحكان، كأنهما راضيان ومتواطئان لإحداث هذا التموضع. لحظة تختصر وتستشرف الكثير، إلا أنّها لا تكشف سراً إن أكّدت من جملة ما يؤكّد أنّ كامالا هاريس اسم يحفر عميقاً في تاريخ رئاسة الولايات المتحدة، وحاضر العالم، وانتظاراته، وما يتجاوزها… وربما مستقبله.