ديفيد غراهام David A. Graham، (ذي أتلانتيك The Atlantic)
حتّى مع استمرار التنازع على نتائج التنافس الرئاسي، يبدو أنّه ثمّة خاسر واضح في هذه الانتخابات: هو استطلاعات الرأي.
لقد أخطأت استطلاعات الرأي بشدة بشأن النتائج، إذ توقّعت فوزاً سهلاً لنائب الرئيس السابق جو بايدن، وأملاً ما بمكاسب للديمقراطيين في مجلس الشيوخ، ومكاسب للحزب في مجلس النواب. وبدلاً من ذلك، فإن الانتخابات الرئاسية متقاربة جداً في نتائجها، ويبدو أنّ الجمهوريين يستعدون للتمسّك بمجلس الشيوخ، ومن المرجّح أن تتقلص أرجحية الديمقراطيين في مجلس النواب.
هذه كارثة بالنسبة لصناعة استطلاعات الرأي والنشرات الإعلامية والمحلّلين الذين يحزمون استطلاعات الرأي، ويؤوّلونها من أجل الاستهلاك العام، مثل موقع “538 FiveThirtyEight” ويرمز الرقم إلى عدد مندوبي الولايات في الهيئة الناخبة للرئيس، وخلاصات “النيويورك تايمز”، ووحدة الانتخابات في مجلة “الإيكونوميست The Economist”. وهم يواجهون الآن أسئلة وجودية خطيرة. لكنّ المشكلة الكبرى التي تطرحها أزمة استطلاعات الرأي، ليست في الانتخابات الرئاسية، حيث تُقاس المختصرات التي تقدّمها استطلاعات الرأي في نهاية المطاف بفرز فعلي للأصوات. وكما تنصّ العبارة السياسية المبتذلة، فإن: الاستطلاع الوحيد الذي يهمّ هو يوم الانتخابات. والكارثة الحقيقية هي أنّ فشل استطلاعات الرأي لا يترك للأميركيين طريقة موثوقاً بها، لفهم ما يفكّر فيه الناس خارج الانتخابات، الأمر الذي يهدّد قدرتنا على اتخاذ الخيارات، أو الاتحاد كأمة.
يعود تاريخ صناعة استطلاعات الرأي إلى ثلاثينيات القرن العشرين، عندما أنشأها جورج غالوب George Gallup. ولكن في العقود القليلة الماضية، أصبحت هذه الصناعة مهيمنة حقاً في مجالات علم السياسة والسياسات العملية. كان الرئيس بيل كلينتون مولعاً باستخدام بيانات استطلاعات الرأي لتوجيه القرارات السياسية، لكنّ الازدهار الحقيقي جاء مع إنشاء نيت سيلفر Nate Silver موقع FiveThirtyEight في عام 2007، بسبب حال الإحباط الذي أحسّ به من كلام الخبراء الذي سمعه على شاشة التلفزيون. وقد كان يعتقد أنه إما هو خطأ في قراءة استطلاعات الرأي العام أو إصرار على تجاهلها تماماً.
لقد توقّع سيلفر فوز باراك أوباما في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي عام 2008، ثم في الانتخابات العامة، ومرة أخرى في عام 2012، وأسّس حركة. إنّ نقده، الذي يتناسب مع الدوافع التكنوقراطية الباردة في سنوات أوباما، ما زال مستمراً حتى اليوم. شعر سيلفر وفريقه أنّ المراسلين كانوا يفشلون في تغطية سباق الخيل لأنهم اعتمدوا بشكل كبير على الحكايات، التي لم يكن الكثير منها يمثّل الحقيقة، إما لأنّ المراسلين كانوا منغلقين للغاية أو لأنهم اختاروا الحكايات على نحوٍ غير صحيح.
لم يرغب سيلفر بأن يتوقف المراسلون عن الذهاب إلى ميدان سباق الخيل، بل أراد منهم فقط أن يضعوا ما يسمعونه في سياقه. قال لي العام الماضي: “ربما يكون الدافع غير سيء. لكن استطلاعات الرأي هي أيضاً طريقة للتحدّث مع الناخبين”. وأعرب عن أمله في أن يتمكّن من خلال الدمج بين استطلاعات الرأي وإيجاد المعدّلات الوسطية، وإيجاد نماذج من الناخبين، أن يحرّر المراسلين كي يكتبوا قصصاً أخرى. وبدلاً من ذلك، أصبحت صحافة سباق الخيل أكثر تعقيداً، ومهووسة باستطلاعات الرأي، وفي هذا المسار، أصبحت استطلاعات الرأي أكثر مركزية في مجال التغطية السياسية، وقد تعزّزت الآن بلمعان الصرامة الكمّية.
هذه كارثة بالنسبة لصناعة استطلاعات الرأي والنشرات الإعلامية والمحلّلين الذين يجمعون استطلاعات الرأي، ويؤوّلونها من أجل الاستهلاك العام، مثل موقع “538 FiveThirtyEight” ويرمز الرقم إلى عدد مندوبي الولايات في الهيئة الناخبة للرئيس، وخلاصات “النيويورك تايمز”، ووحدة الانتخابات في مجلة “الإيكونوميست”
لكن انتخابات عام 2016 شكّلت صدمة لهذا النظام الجديد. لقد توقّعت استطلاعات الرأي والمحلّلون فوز هيلاري كلينتون، وبدلاً من ذلك فاز دونالد ترامب. ووسط ردّ فعل شعبي عنيف، دافع فريق الاستطلاع – أي استطلاعات الرأي والمحلّلون على حدّ سواء – عن نتائجها، وألقى باللوم على الجمهور لعدم فهمه استطلاعات الرأي أو الاحتمالات الناتجة عنها. وأشاروا إلى أنّ معدّل التصويت الشعبي قارب استطلاع الرأي على المستوى الوطني بشأن كلينتون مقابل ترامب. وعلى الرغم من أنّ استطلاعات الرأي في الولايات كانت خاطئة للغاية، إلا أنّ الكثير منها لم يكن مخطئاً بالإجمال إلى هذا الحدّ.
بعض المراقبين، بمن فيهم أنا، أقبل هذا الدفاع بشكل أو بآخر. لقد درس خبراء استطلاعات الرأي أساليبهم عن كثب، ووعدوا بمحاولة حلّ المشكلات في عام 2020، على الرغم من أنهم لاحظوا أنّ استطلاعات الرأي ليست مثالية أبدًا. (مرة أخرى، الاستطلاع الوحيد الذي يهمّ هو يوم الانتخابات).
موقع FiveThirtyEight، ومن قبيل الثقة الزائدة بالنفس، منح ترامب فرصة أفضل (حوالى 30 في المائة) أي أكثر من معظم المحلّلين في عام 2016، وقد أعطى ترامب فرصة نجاح بنسبة 10 في المائة فقط في عام 2020. وكانت مجلة الإيكونوميست أكثر وثوقاً بشأن بايدن. ثم جاء التصويت. وفي كلّ ولاية متأرجحة ما عدا ولاية أريزونا، تفوّق ترامب على متوسط استطلاعات الرأي في FiveThirtyEight. هذا ليس لاختيار الموقع الذي ذهب إلى أطوال غير عادية لضمان أنّ متوسطاتها كانت دقيقة. ولكن ببساطة للإشارة إلى أيّ مدى كانت استطلاعات الرأي بعيدة عن الواقع ككلّ.
ستشهد الأيام والأسابيع المقبلة تحليلاً دقيقاً واتهامات أقل حذراً، ولكن يبدو أن لا أحد يعرف بعد بالضبط ما الذي حدث. إنّ الجواب لا يهمّ تقريباً، إلا إذا كنتَ خبيراً محترفاً في استطلاعات الرأي، لأن المستطلِعين فقدوا ثقة الصحافة والجمهور، بعد اثنين من التخبّطات الرئاسية الضخمة.
نتوقّع خطين للدفاع عن مصداقية استطلاعات الرأي. أولاً، يصرّ العديد من الخبراء على أنّ استطلاعاتهم هي مجرّد لقطات، وليست تنبؤات (بل بصفتها أدوات لأشخاص مثل سيلفر، ونايت كوهن Nate Cohn من صحيفة التايمز، وج. إليوت موريس G. Elliott Morris من مجلة الإيكونوميست، وهم يستعملونها لوضع توقّعات). إذا كانت لقطاتهم بعيدة جداً، على الرغم من أنها كانت توجّه العدسة؟ فلماذا تزعج نفسك؟ ثانياً، سيحتجّ المحلّلون بأنهم جيدون فقط مثل استطلاعات الرأي، ولكن من يهتم؟ وأياً كانت التعليمات المكتوبة، بإزاء استطلاعات الرأي، فإن الجمهور يستعملها لمحاولة فهم ما يحدث. فإذا لم تقدّم استطلاعات الرأي ومحلّلوها الخدمة التي يسعى إليها الزبائن، فهي محكوم عليها بالفشل.
من غير المرجّح أن يحصل خبراء استطلاعات الرأي والمحلّلون، على الكثير من التعاطف، وخاصة اليوم. ولكن حُطام صناعتهم له عواقب أعمق من تأثيره في حياتهم المهنية، أو حتى بعد وضع توقّعات غير صحيحة لنتائج السباق الرئاسي. إنّ جانباً كبيراً من الديمقراطية الأميركية يتكل على قدرة الفهم لما يفكّر فيه مواطنونا. وقد أصبحت هذه المهمة أكثر تحدّياً مع تصنيف الأميركيين أنفسهم إلى دوائر أيديولوجية – جغرافياً، ورومانسياً، ومهنياً، وفي وسائل الإعلام التي يستهلكونها. فالأحزاب الآن متجانسة بمعظمها أيديولوجياً. ولم نعد نصرف الكثير من الوقت لفهم الناس الذين يختلفون عنّا. كان استطلاع الرأي العام أحد آخر الطرق التي نملكها كي نفهم ما يعتقده الأميركيون الآخرون بالفعل.
ستشهد الأيام والأسابيع المقبلة تحليلاً دقيقاً واتهامات أقل حذراً، ولكن يبدو أن لا أحد يعرف بعد بالضبط ما الذي حدث. إنّ الجواب لا يهمّ تقريباً، إلا إذا كنتَ خبيراً محترفاً في استطلاعات الرأي، لأن المستطلِعين فقدوا ثقة الصحافة والجمهور، بعد اثنين من التخبّطات الرئاسية الضخمة
فإذا لم ينجح استطلاع الرأي، فكأننا نحلّق في الهواء عُمياً. وهذه مشكلة حادة بشكل خاص في الوقت الراهن، لأن جائحة الفيروس التاجي جعلت الطريقة القديمة التي تحصل بها وسائل الإعلام على هذه التقارير أصعب بكثير من أن يُتخلّى عنها، أي النزول إلى الميدان، على الرغم من أوجه القصور الكثيرة. البديل الترامبي، وهو مجرّد الثقة في الإحساس الغريزي، ليس أفضل من ذلك. لقد خذل هذا الإحساس كثيراً من المرشحين من قبل. وقد يكون ثبت كذلك أنّه خذل الرئيس ترامب هذه المرة.
عندما يمكن للانتخابات أن تعطينا إجابة قاطعة على سؤال ما، من خلال إخبارنا عن المرشّح أو السياسة التي يفضّلها الأميركيون، تصبح المشكلات المتعلّقة باستطلاع الرأي أقل أهمية، على الرغم من أنها تجعل فرز الأصوات أكثر إرهاقاً. ولكن أيّ شيء يحدث خارج انتخابات السنوات الأربع، وخارج انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، أصبح الآن غامضاً. وفي وقت سابق من هذا الصيف، اتخذ ترامب خطوة متشدّدة ضدّ الاحتجاجات من أجل العدالة العرقية بعد قتل الشرطة لجورج فلويد George Floyd. وكما أشرت في ذلك الوقت، كان هناك انخفاض سريع وكبير في نسبة التأييد للرئيس في استطلاعات الرأي، وخاصة بين الناخبين البيض. لم يستردّ ترامب أبداً هذا الدعم في استطلاعات الرأي، ولكن مع توقّف استطلاعات الرأي، من يدري ما إذا كان هذا الانخفاض حقيقياً، أو ما إذا كانت مواقف البيض بشأن العدالة العرقية قد تغيّرت حقاً؟
إقرأ أيضاً: «أزمة أصوات البريد»: سلاح ترامب لقلب المعادلة
إنّ عدم القدرة على الاعتماد على استطلاعات الرأي، يقوّض أيضاً مجموعة من الخيارات السياسية العامة. إنّ كثيراً من الناخبين يختارون المرشّح الذي يفضّلونه في الانتخابات التمهيدية استناداً جزئياً إلى حسابات عقلانية حول من هو الأكثر احتمالاً للفوز في الانتخابات العامة. ويختار صانعو السياسات الأفكار التي يؤيدونها أو يعارضونها على أساس ما يعتقدون أنّ الجمهور يؤيده. ولكن إذا لم تكن بيانات استطلاعات الرأي موثوقاً بها، فإن المرشّحين الذين يفوزون في الانتخابات التمهيدية، من المرجّح أكثر أن يكونوا الأعلى صوتاً والأفضل تمويلاً، وقد تتعارض السياسات التي يتراجع عنها الساسة مع رغبات الناخبين الذين انتخبوهم.
فبدون مصادر موثوق بها للمعلومات عن الرأي العام، ربما ينبغي على الصحافة، وعلى الجمهور استطراداً، أن يتسموا بقدر من التواضع فيما يمكننا معرفته، وما لا نستطيع معرفته في السياسة. وعلى الرغم من سمة الحكمة التي يمكن أن يتصف بها التواضع – وحتى لو تمكّن الناس من التصرّف على أساسه – فإن هذا النوع من التواضع المعرفي قد يقع فريسة لمثل الحرب غير المتوازية التي امتازت به ولاية ترامب غالباً. في الوقت الحالي، فإن زعيم الحزب الجمهوري هو شعبوي استبدادي يدّعي أنه يمثّل الإرادة “الحقيقية” للشعب، على الرغم من خسارته التصويت الشعبي مرتين. ومن غير المرجّح أن يمارس الرئيس ترامب أيّ تواضع من هذا القبيل، عبر الادّعاء، دون دليل، بأن الرأي العام معه. قد يكون مخطئاً، لكن من دون استطلاعات موثوق بها، فمن يقول خلاف ذلك؟
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا