المصارف تنتهك السرية المصرفية.. وتقفل حسابات دون حقّ

مدة القراءة 7 د


عندما طُيّر التدقيق الجنائي، كانت الحجّة هي “السرّيّة المصرفية”. واليوم السرية ذاتها تنتهكها المصارف التجارية وبوتيرة يومية…

ما الجديد في هذا الصدد؟

قامت “بعض” المصارف بإغلاق حسابات الودائع من دون وجود أيّ تبرير قانوني لقرار كهذا. والمثير للريبة أنّ البنوك الحريصة على “سريّة” العملاء، تعمد إلى ايداع المبلغ الموجود في الحساب في شيك مصرفي (غير قابل للتداول أو التحويل أو الاستعمال أو الصرف بقيمته الاسمية)، وذلك بعرض فعلي وإيداع لدى كاتب العدل. هذه الواقعة الخطيرة تعني شيئين: الأول نسف قانون السرية المصرفية عن بكرة أبيه. الثاني هو تأكيد على الاستنسابية واللاأخلاقية في طريقة التعاطي مع المودعين. فالمصارف التي ترفض استيفاء دفعات القروض عبر العرض الفعلي والإيداع، تعود وتلجأ إليه وفق ما تقتضيه مصلحتها (ما يُعتبر تعسّفاً بموجب المادة 124 موجبات وعقود)، فتدّعي تبرئة ذمتها وفق آلية العرض والإيداع الفعلي التي تصلح إيفاءً لدين ولا تستقيم ردّاً لوديعة.

في 15 آذار 1979، صدر عن مجلس شورى الدولة، الغرفة الأولى، قراراً حول شمول قانون السرية المصرفية جميع علاقات المصرف مع زبائنه من أيّ نوع كانت. وهو يرتكز إلى المادة 2 من قانون سرية المصارف التي تنصّ على أنه “لا يجوز للمصرف إفشاء ما يعرف عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلّقة بهم لأيّ شخص، فرداً كان أم سلطة عامة…”.

هذا التوجّه الاجتهادي يسبقه رأي هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل. وقد أكد على أنّ المشترع حرص في قانون السرية المصرفية على عدم السماح لمستخدمي المصارف ومديريها إعطاء أيّ معلومات متعلّقة بالعملاء حتى لموظّفي الدوائر المالية (لتحصيل الضرائب).

باختصار، المصارف ملزمة قانوناً بكتمان أسرار عملائها بصورة مطلقة، أكانوا دائنين أم مدينين. أما في حالات النزاع القضائي، فيحقّ للمصرف إعلام المحكمة بكلّ التفاصيل المتعلّقة بالعمليات المصرفية المرتبطة بالنزاع ارتباطاً وثيقاً دون أيّ تجاوز أو إخلال بالمبادئ المرعية.

قامت “بعض” المصارف بإغلاق حسابات الودائع من دون وجود أيّ تبرير قانوني لقرار كهذا. والمثير للريبة أنّ البنوك الحريصة على “سريّة” العملاء، تعمد إلى ايداع المبلغ الموجود في الحساب في شيك مصرفي (غير قابل للتداول أو التحويل أو الاستعمال أو الصرف بقيمته الاسمية)، وذلك بعرض فعلي وإيداع لدى كاتب العدل

تستند استنسابية المصارف هذه المرّة إلى ضرورة التخلّص من الودائع المجمّدة وأكلاف فوائدها بعدما استنزفت دولاراتها الساخنة. وفي الوقت عينه، ترفض استيفاء قيمة قروض العملاء، تحديداً المدولرة منها، هرباً من المزيد من الخسائر في ميزانياتها رغم كلّ ما جنته من أرباح في العمولات والفوائد وبدع المصاريف الشهرية. أي إنّ اللعبة المصرفية تقتصر راهناً على “تنظيف” الميزانيات (Balance Sheet) إما تحضيراً للدمج، أو تقليصاً للمصاريف الإضافية قبل زيادة الرساميل، أو تلخيصاً للمشاكل قبل الخروج من السوق نهائياً. وكل ذلك يحصل عبر الإحاطة بالسرية المصرفية.

“أساس” يملك عدداً من الوثائق التي تثبت قيام مصارف كبيرة بهذه العمليات غير القانونية، التي يصفها خبراء مصرفيون بأنّها “بدعة ولا يحقّ للمصارف بتنفيذها”. كما اطّلع “أساس” على أحكام قضائية ألزمت مصارف بإعادة فتح حسابات بعض المودعين بقوّة القانون.

في حديث مع “أساس”، تفنّد الباحثة في القوانين المصرفية والمالية الدكترة سابين الكيك، العلاقة التعاقدية الناشئة بموجب عقد فتح الحساب الدائن فتقول: “المقصود هنا كلّ حساب يضمّ مبلغاً من النقود أودعه العميل لدى المصرف استناداً للمادة 121 من قانون النقد والتسليف. في الحقيقة،، لا تخوّل هذه العلاقة التعاقدية البنك التصرّف بإرادته المنفردة المطلقة، حتى وإن كانت تعطيه الحرية برفض الاستمرار بالعقد. فهذا الحقّ مشروط بعدم التعسّف تحت طائلة الملاحقة بتعويض العطل والضرر للعميل. تخضع علاقة البنك بالمودع لقواعد استرداد الوديعة، وليس لقواعد إيفاء الديون. ولذا، لا يُعتبر المصرف بريء الذمة تجاه المودع إلا إذا استردّ هذا الاخير أمواله شخصياً أو لمن يحدّده بنفسه أو لمن تحدّده المحكمة بموجب قرار قضائي.

كما لا يجوز للمصرف، بحسب المادة 701 من قانون الموجبات والعقود، إلزام المودع استرداد وديعته قبل الأجل المتفق عليه إلا لسبب مشروع.

وفي حال لم يُحدّد أجل مسبق لردّ الوديعة، يجوز للوديع (أي المصرف) وفقاً للمادة 702 من قانون الموجبات والعقود، ردّ الوديعة في أيّ وقت شاء “بشرط ألّا يكون هذا الوقت غير مناسب”. وعليه أيضاً أن “يلتزم بمنح المودع مهلة كافية للاسترداد او لإعداد ما تقتضيه ظروفه”. بمعنى أبسط، يخضع حقّ المصرف بفسخ العلاقة التعاقدية مع المودع لأصول قانونية واضحة بدءاً من عملية إقفال الحساب واحترام الأجل المحدّد لصالح المودع أو الأجل الذي لا يسبّب له ضرراً، وصولاً إلى الزامية إبلاغ المودع قرار فسخ العقد وحتمية الحصول على موافقته إن لجهة ترصيد الحساب أو لجهة تحديد كيفية استرداده للمبلغ. تُطبّق هذه الإجراءات لاعتبار أنّ استرداد المبلغ هو حق قانوني شخصي للمودع، ولا يملك المصرف أيّ سلطة أو صلاحية عليه”.

وتضيف الكيك: “على المصرف تسليم الوديعة إلى المودع بنفسه أو إلى الشخص المعيّن من قبله لاستلامها. وبناءً عليه، لا يمكن للمصرف بأيّ حال من الأحوال أن يقوم بتسليم المبلغ المودَع لديه لشخص ثالث غير المودِع أو غير الشخص المعيّن من قبل المودع، وذلك تحت طائلة ملاحقته مدنياً بمخالفة المادة 705 من قانون الموجبات والعقود. والأهم، ملاحقته جزائياً بجرم إفشاء السرية المصرفية المنصوص عنها في المادة 8 من القانون الصادر في تاريخ 3/9/1956، وفي المادة 203 من قانون النقد والتسليف. فإجراء العرض والإيداع الفعلي غير قابل للتطبيق عند فسخ عقد الحساب الدائن لدى المصارف لأسباب عديدة أهمها أنه يؤدي إلى كشف حسابات العميل الدائنة أمام الكاتب بالعدل، وهو أصلاً ليس من عداد الأشخاص الممكن كشف السرية المصرفية أمامهم بحسب القانون 8/56”.

“أساس” يملك عدداً من الوثائق التي تثبت قيام مصارف كبيرة بهذه العمليات غير القانونية، التي يصفها خبراء مصرفيون بأنّها “بدعة ولا يحقّ للمصارف بتنفيذها”. كما اطّلع “أساس” على أحكام قضائية ألزمت مصارف بإعادة فتح حسابات بعض المودعين بقوّة القانون

الكاتب بالعدل بحسب المادة 822 من قانون أصول المحاكمات المدنية “ينظّم محضراً لإثبات العرض والإيداع يتضمّن تعيين الشيء المعروض، ومكان وجوده على وجه نافٍ لكلّ التباس”. ذلك يعني أنّ العرض الفعلي والإيداع الذي تعتمده المصارف لإقفال الحسابات يستلزم كشف أسرار العميل وأرقام حساباته وأرصدته دون إجازة مسبقة من المودع وبصورة تتعارض مع أحكام السرية المصرفية”.

أما في حال “نشوء دعوى تتعلّق بمعاملة مصرفية” بين البنك وعميله، فتُرفع السرية المصرفية كما توضح الكيك بالقانون ضمن الشروط التالية:

-أن تبقى محصورة في ساحة القضاء.

– وضمن حدود النزاع وما يرتبط معه ارتباطاً وثيقاً دون تجاوز المبادئ والقواعد العامة المرعية الإجراء.

“أي أنّ النزاع حول حساب مدين مع العميل لا يعطي المصرف الحقّ بإفشاء معلومات عن الأموال المودعة لديه باسم العميل، وأن يستنسب بطريقة تعسفية حقه بإقفال الحسابات، وإيداعها لدى شخص ثالث ولو كان كاتباً بالعدل”.

إقرأ أيضاً: لعبة “المركزي” مع الليرة: إنفصام وانتقام!

في المحصّلة، تطرح هذه الارتكابات أكثر من سؤال قانوني: فعلى أيّ أساس تختار إدارات المصارف الحسابات المنوي إغلاقها؟ وبما أنّ الحساب المصرفي كناية عن عقد بين العميل والمصرف ينتهي إذا قرّر أحد الطرفين عدم استكماله، ففي هذه الحالة تسقط حجّة عدم مراعاة قواعد الامتثال أو تبييض الأموال أو الشكّ بمصدر الأموال بما أنّ الاموال موجودة أصلاً في الحسابات، وهو ما يؤكد استنسابية هذه المؤسسات وتعسّفيتها عبر خرق أهم ركيزة قام عليها النظام المالي في تاريخ لبنان الحديث أي “السرّيّة”. 

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…