على الرغم من كلّ أدبيات الوفاء المتبادلة بين حسن نصرالله وميشال عون خصوصاً قبيل وغداة انتخاب رئيس “التيار الوطني الحرّ” على رأس الجمهورية، فإنّ هذه الانتخابات ما كادت تتمّ (في 31 تشرين الأول 2016) حتّى أقام “حزب الله” عرضاً عسكرياً ضخماً في بلدة القصير السورية بمحاذاة الحدود الشمالية الشرقية للبنان (في 13 تشرين الثاني). ثمّ بعد أقل من أسبوع (في 20 تشرين الثاني) أقام الوزير السابق وئام وهّاب عرضاً عسكرياً (كان الأوّل والأخير!) مجلجلاً لـ”سرايا التوحيد” التي “ستكون جزءاً من المقاومة في مواجهة أيّ عدوان اسرائيلي”. أي أنّها جزء من المنظمومة الأمنية والعسكرية التي يديرها الحزب في لبنان والجوار!
إذاً، فإنّ كلّ هذا الوفاء المتبادل بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحرّ” لم يمنع الحزب من توجيه رسالة أمنية / سياسيّة للعهد في أيّامه الأولى فحواها أنّ المعادلة الأمنية السياسية التي تحكم لبنان لن تتغيّر بعد الانتخابات الرئاسية حتّى لو كان ساكن قصر بعبدا حليفاً للحزب، وأنّ “قوّة” الرئيس تقف عند حدود “المقاومة”. فكيف كانت لتكون حال الطرفين لو لم يكن بينهما كلّ هذا الوفاء؟!؟
ذلك يؤكّد المؤكد، وهو أنّ كلمة “وفاء” غريبة عن قاموس السياسة وعالمها. وليس إقحامها في السياق السياسي سوى تجويف لها من أيّ مضمون قيمي. ناهيك بأن استخدامها في سياق كهذا غايته إضفاء طابع أخلاقي مزعوم على اللعبة السياسية بهدف التورية على ممارسات سياسية لا تمتّ إلى الأخلاق بصلة. مع العلم أنّ تعريف الممارسة السياسيّة تعريفاً أخلاقياً يرتكز أساساً على مدى التزام هذه الممارسة بالقواعد الدستورية والقانونية التي تحدّد معايير اللعبة السياسية وحدودها على أساس الصالح العام. والحال هذه، لا يحتاج المرء كثير تفكير لإدراك الأبعاد الأخلاقية في الممارسة السياسية للأحزاب اللبنانية، خصوصاً تلك التي تبالغ في إظهار “أخلاقياتها”!
كلّ هذا الوفاء المتبادل بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحرّ” لم يمنع الحزب من توجيه رسالة أمنية / سياسيّة للعهد في أيّامه الأولى فحواها أنّ المعادلة الأمنية السياسية التي تحكم لبنان لن تتغيّر بعد الانتخابات الرئاسية
هذا نوع من أنواع “دسّ” الأخلاق في اللعبة السياسية، لكن ثمّة نوع آخر غايته أيضاً تشويه الحياة السياسية وإفراغها من أيّ مضمون ديموقراطي، وقد باتت تستلهمه القوى السياسيّة بغية “تقديس” زعيمها وإضفاء طابع “طهرانيّ” عليه، وكلّ ذلك لتبرير سياساته “الناشزة” في غالب الأحيان.
هذا المنحى التقديسي للزعيم يستدعي بناء دينامية سياسيّة وإعلامية واعية وممنهجة هدفها أوّلاً الدفاع “الأعمى” عن سياساته أيّا تكن هذه السياسات والكيفية التي أنتجتها وإن كانت غير ديموقراطية.
والحال، فإنّ هذا التقديس يستدعي أوّلاً شيطنة خصوم الزعيم، خصوصاً أولئك “المنشقّين” عنه. وهكذا تُستخرج من القاموس كلّ تعابير الهجاء، وتسكب عليهم لأنّهم عارضوا سياسة الزعيم ثمّ انفصلوا او انشقوا عنه.
على هذا النحو يصنّف الاختلاف في المواقف والتوجّهات لأيّ شخصيّة سياسيّة ضمن فريق معيّن بمثابة عدم وفاء قد يصل إلى حدّ الخيانة، وذلك وفق منطق أنّ زعيم هذا الفريق هو الذي يحدّد لوحده سياساته وخيارته وكلّ رأي آخر مردود؛ فإمّا أن تلتزم بقرار الزعيم ولو لم يصدر عن آليات ديموقراطية داخل الحزب أو أنت خائن وعديم الوفاء! والسؤال: ألا يعدّ انفصال شخص عن حزبه عندما لا يعود يمثّل قناعاته ورؤيته السياسية وفاء من قبله لنفسه؟
هذا نوع من أنواع “دسّ” الأخلاق في اللعبة السياسية، لكن ثمّة نوع آخر غايته أيضاً تشويه الحياة السياسية وإفراغها من أيّ مضمون ديموقراطي، وقد باتت تستلهمه القوى السياسيّة بغية “تقديس” زعيمها وإضفاء طابع “طهرانيّ” عليه، وكلّ ذلك لتبرير سياساته “الناشزة” في غالب الأحيان
وإذا رجعنا إلى التاريخ السياسي اللبناني، فلا نقع على ظواهر مماثلة لإقحام المفاهيم الأخلاقية في الممارسة السياسية قصد تسخيف السياسة وتمكين الزعيم من أخذ قرارات لا يجادله فيها أحدٌ من أركان حزبه. فعندما كان يقع اختلافٌ سياسيٌ بين رئيس حزب ما وأحد أعضائه البارزين، فإنّ لغة التخاصم بينهما ما كانت تجنح نحو الشتيمة والتشكيك الأخلاقي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم ينعت ريمون إده، إدوار حنين، الذي استقال من “الكتلة الوطنية” واتّخذ خيار “الجبهة اللبنانية”، بعدم الوفاء. بل كان يقول ممازحاً إنّ “إدوار تعلّم ما يقوله على منبر الجبهة في الكتلة”. وذلك على الرغم من التناقض الكبير بين الجهتين وقتذاك!
أمّا الآن، فهناك أحزاب وتيارات تصنّف نفسها “ليبرالية” (على ما قال الأمين العام لإحداها) لم تعد تجيد مخاطبة المختلفين معها إلّا بالهجاء، وذلك ليس سوى تعبير عن ضعف حجّتها وحماسة كتبتها إلى شتم مخالفيها الرأي، لعلّهم بذلك يرتفعون درجة في سلّم “الوفاء”!!
إقرأ أيضاً: باسيل يخلط مظلومية المسيحيين… بالكراهية الشعبية له