بات من الواضح للجميع أنّ مسار عقد وزارة الماليّة مع شركة “آلفاريز آند مارسال” قد وصل إلى حائط مسدود. تسلّح مصرف لبنان سريعاً بالحواجز التي يفرضها قانونا النقد والتسليف والسريّة المصرفيّة، والتي لا تسمح بتزويد الشركة المكلّفة إجراء التدقيق الجنائي بمعظم المعلومات التي طلبتها، فيما استنتجت الشركة أنّ هذه الحواجز القانونيّة لن تسمح لها بمعالجة معظم البنود المطلوبة منها في “نطاق الأعمال” المحدّد في العقد. في المحصّلة: لملمت الشركة أغراضها وبدأت تعدّ العدّة للرحيل.
إقرأ أيضاً: التدقيق الجنائي في خبر”كان”: شركة لعوب ودولة “دكّان”
كلّ هذه التطوّرات فتحت الباب أمام النقاش في البدائل المطروحة لإتمام مسار التدقيق الجنائي في المرحلة المقبلة، بعد تشكيل الحكومة الجديدة، خصوصاً أنّ هناك من يربط إتمام هذا المسار بالحصول على المساعدات الدوليّة سواء من صندوق النقد أو من خلال برنامج الإنفاق الاستثماري الذي جرى تقديمه للجهات الدوليّة الداعمة في مؤتمر سيدر. ولعلّ حديث بيار دوكان، المبعوث الفرنسي المكلّف بتنسيق الدعم الدولي للبنان، بأن عدم إتمام التدقيق الجنائي “سيعني اختفاء لبنان”، مثّل إشارة في هذا الاتجاه، خصوصاً أنّ هذه النبرة الحازمة جاءت في لقاء دوكان مع وفد جمعيّة المصارف في باريس.
عمليّاً، ثمّة من يطرح اليوم العمل على تعديلات قانونيّة يمكن أن تبادر إلى اقتراحها الحكومة المقبلة أو لجنة المال والموازنة، بهدف تقديم ما يلزم من مخارج تشريعيّة تسمح لشركة التدقيق الجنائي بالحصول على المعلومات التي تحتاجها لإتمام هذا التدقيق. وبالتوازي، يمكن العمل في هذه الحالة على ملحق للعقد الذي وقّعته وزارة الماليّة مع الشركة، لتمديد المهل المحدّدة في العقد، بانتظار إنجاز التعديلات القانونيّة المطلوبة. ولعلّ رهان الاستشاريين المتحمّسين لهذه الفكرة، ينطلق من التنسيق الذي بدأ منذ فترة بين الفرنسيين ولجنة المال والموازنة، بهدف وضع خارطة طريق تحدّد أهم التشريعات المطلوب العمل عليها للامتثال لشروط الدعم الدولي، مع العلم أنّ فكرة التعديلات القانونيّة ليست وليدة التطوّرات الأخيرة، إذ إنّ مجلس الوزراء ناقش بالفعل، قبل التوقيع مع “آلفاريز آند مارسال”، إمكانيّة إرسال مشروع قانون بهذا الخصوص، لكنّ المجلس عاد وتغاضى عن هذه الفكرة.
ثمّة من يطرح اليوم العمل على تعديلات قانونيّة يمكن أن تبادر إلى اقتراحها الحكومة المقبلة أو لجنة المال والموازنة، بهدف تقديم ما يلزم من مخارج تشريعيّة تسمح لشركة التدقيق الجنائي بالحصول على المعلومات التي تحتاجها لإتمام هذا التدقيق
في المقابل، ثمّة رأي قانوني آخر يساجل بأن المسألة تتعلّق بآليّات التنفيذ، وليس العوائق القانونيّة. فالسريّة المنصوص عنها في قانوني السريّة المصرفيّة والنقد والتسليف تتعلّق بالمعلومات الشخصيّة لزبائن المصارف، وتحديداً أصحاب الودائع والحسابات الدائنة، مع العلم أنّ القانون نفسه يستثني أصحاب القروض المصرفيّة من موجبات هذه السريّة. ولذا، غالبيّة المعلومات المطلوبة لإجراء التدقيق الجنائي غير مشمولة بهذا النوع من الحواجز، وتحديداً المعلومات المتعلّقة بالعمليّات التي قام بها مصرف لبنان في إطار الهندسات الماليّة، وقرارات المجلس المركزي، ونوعيّة الاستثمارات التي قام بها، والأصول التي يحتفظ بها، وغيرها. وهذا الرأي القانوني يستند إلى حقيقة أنّ مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان يملك صلاحيّة طلب هذا النوع من البيانات للتدقيق بها، ومن الطبيعي أن يحقّ لوزارة الماليّة الحصول على هذه المعلومات من خلال المفوّض لتدقيقها من قبل الشركة التي كلّفتها الوزارة.
وبما أنّ المسألة تتعلّق بفرض تنفيذ التدقيق لا النص القانوني بحسب هذه الآراء، فالحلّ في هذه الحالة يكون بتضمين عمليّة التدقيق الجنائي آليّات تقنيّة كفيلة بتذليل عقبات جرى فرضها خلال الفترة الماضية. وهنا تُطرح أفكار من قبيل تعديل العقد خلال الفترة المقبلة، لإدخال مجموعة “إغمونت” الدوليّة كطرف وسيط فيه. مع العلم أنّ هذه المجموعة تمثّل تجمّع لوحدات المعلومات الماليّة حول العالم، وهي تملك الخبرة التقنيّة الكافية للمساندة في إنجاز هذا التدقيق، فيما يُفترض أن يمتثل مصرف لبنان لقراراتها كون لبنان عضواً في المجموعة، وترتكز قرارات المجموعة على باعها الطويل، وتخصّصها في إدارة عمليّات جمع المعلومات الماليّة. وفي كلّ الحالات، كان إدخال مجموعة إغمونت الدوليّة كطرف في العقد فكرة “هيئة التشريع والاستشارات” منذ البداية، بناءُ على تقدير الهيئة لضرورة تدخّل جهة مصرفيّة متخصّصة من هذا النوع في مسار التدقيق.
التيار الوطني الحرّ نفسه، الذي لطالما تغنّى بالتدقيق الجنائي ولوّح به في وجه رياض سلامة، كان يملك القدرة مثلاً على إطلاق مسار تشريعي يذلّل هذه العوائق القانونيّة من خلال لجنة المال والموازنة، لكنّه لم يفعل، وهو ما يشير إلى عدم الجديّة في التعاطي مع الملف منذ البداية
كلّ هذه الأفكار تبقى ممتازة من الناحية النظريّة البحت. لكن من الناحية العمليّة، يشير بعض المتابعين لمسار التدقيق الجنائي إلى أنّ العقبات ليست تقنيّة من النوع الذي يمكن حلّه بهذه الأساليب، بل هي سياسيّة بامتياز. ويمكن القول إنّ الأقطاب الذين يملكون النفوذ السياسي اليوم لا يملكون المصلحة الفعليّة في كشف معلومات لا بدّ أن تطلبها أيّ شركة تريد القيام بتدقيق جنائي فعلي، بمن في ذلك القوى السياسيّة التي رفعت التدقيق الجنائي كشعار في وجه حاكم مصرف لبنان. ولهذه الأسباب، لم تُذلّل كلّ هذه العقبات منذ البداية، وبالتأكيد لن تُذلّل خلال المرحلة المقبلة. التيار الوطني الحرّ نفسه، الذي لطالما تغنّى بالتدقيق الجنائي ولوّح به في وجه رياض سلامة، كان يملك القدرة مثلاً على إطلاق مسار تشريعي يذلّل هذه العوائق القانونيّة من خلال لجنة المال والموازنة، لكنّه لم يفعل، وهو ما يشير إلى عدم الجديّة في التعاطي مع الملف منذ البداية.
وبعد موت التدقيق الجنائي، وبما أنّ ولادته مجدّداً متعذّرة لهذه الأسباب بالتحديد، فالبديل هو الاكتفاء بالتدقيق المحاسبي العادي الذي تقوم به حاليّاً شركتان بتكليف من وزارة الماليّة، فيما نصّت شروط صندوق النقد الدولي أساساً على التدقيق في ميزانيات مصرف بشكل عام، ولم تنصّ على إجراء تدقيق جنائي بشكل محدّد. أما بالنسبة إلى الفرنسيين، فمن المعلوم أنّ وفداً مالياً فرنسياً باشر العمل داخل مصرف لبنان منذ زيارة الرئيس الفرنسي الأولى إلى لبنان. وهو يعمل على الدخول في التفاصيل التي تعذّر على شركات التدقيق المحاسبي تدقيقها في السنوات الماضية. ومن المرتقب أن يكون عمل شركتي التدقيق المحاسبي والوفد الفرنسي، هو البديل الذي ستراهن عليه الحكومة في الفترة المقبلة بعد التخلّص من شبح التدقيق الجنائي.