يعيش لبنان في حالتي انهيار وضياع. الانهيار وليد تراكمات سياسية واقتصادية ومالية وأمنية وفساد وطائفية مرَضية وتكاذب سياسي واجتماعي نجترّها على مدى عقود، وكذلك ضياع عن إيجاد السبل الحقيقية للخروج من مأزق تاريخي توهّمنا الخلاص منه بعد الطائف، ثم حلمنا بالقضاء عليه بعد 14 آذار 2005.
كلّ في السياسة والاقتصاد والأمن و”الثورة” يغنّي على ليلاه متوهّماً أنّه أصاب التشخيص ووصّف العلاج السحري، وكلّ ينتهي في مهاترات لا طائل منها إلاّ تعميق جراح البلد.
إقرأ أيضاً: “حركة تصحيحية” في “تيار المستقبل”؟
إنّما الإجماع يبقى، على الأقلّ ظاهرياً، في الحاجة إلى بناء دولة. أليس هذا هو الأساس لمعنى الوطن والمواطنية…؟
لا وطن ولا مواطنية بدون دولة.
هل يمكن محاربة الفساد وكلّ الآفات السياسية الأخرى بدون دولة؟
الصّحة، التعليم، الأمن، الحريّات… كلّها تختفي في ظلّ غياب الدولة، وبالطبع أيضاً الماء، والكهرباء، والرقابة على المالية العامة، وعلى المصارف… الدولة حاجة، وليست قراراً مزاجياً…
لماذا فشلنا في بناء الدولة حتّى الآن؟
ذلك أنّنا قبلنا أن نضحّي بأهم عناصر بناء الدولة أي السيادة الكاملة والحق الحصري باستعمال العنف في الداخل والخارج…
بعكس ما يقول الطائف، وما يحدّده الدستور، قبلنا ببناء دويلة، تحت عنوان المقاومة، على أطراف الدولة. دويلة تنهش الدولة تدريجياً حتّى أضحت هي الدولة الفعلية، وأضحت الدولة شبه دويلة فاشلة يتآكل ما بقي منها بفعل الفساد والطائفية والتطرّف بشتّى أنواعه وشعاراته وممارساته.
اليوم أضفنا إلى أزماتنا الهول الاقتصادي والمالي في وقت نصرّ على تحدّي العالم العربي بخياراتنا الاستراتيجية الموتورة، وعلى تحدّي العالم أجمع برفض القرارات الدوليّة لمجلس الأمن والأمم المتحدة وتحديداً القرار 1559
العودة إلى الأساس، هي المخرج لكل أزماتنا. والأساس يبقى الطائف والدستور بكل مبادئه وقواعده ومواده دون اجتزاء أو تفسير مبتور أو تخلٍ.
العودة إلى الطائف والدستور ليست خياراً بل هي الأساس. والسيادة هي الأساس، وكذلك الديمقراطية. هي الأساس. والمناصفة هي الأساس. والحريات هي الأساس.
كلّ ذلك واضح وصريح في الطائف تحت العنوان الميثاقي الأساس: “لبنان وطن نهائي لأبنائه عربيّ الهوية والانتماء”. والدستور كرّس الميثاقية الحقيقية: الميثاقيّة الإسلاميّة – المسيحيّة، ميثاقية العيش المشترك، والمناصفة في مواقع القرار المحدّدة في المادة 95 من الدستور. أمّا ميثاقية المِلل والأحزاب، فهي بدعة تضليل لا غير…
واليوم أضفنا إلى أزماتنا الهول الاقتصادي والمالي في وقت نصرّ على تحدّي العالم العربي بخياراتنا الاستراتيجية الموتورة، وعلى تحدّي العالم أجمع برفض القرارات الدوليّة لمجلس الأمن والأمم المتحدة وتحديداً القرار 1559.
ما يجمعنا هنا أنّنا نريد استعادة الدولة التي اتفقنا عليها في الطائف وبنينا دستورنا على هذا الأساس.
لا دولة في ظلّ سلاح غير شرعي يغتصب السيادة لمصلحة الوصاية الإيرانية.
لا دولة في ظلّ محاولة جرّ الاقتصاد اللبناني إلى حيث يساوي الدولار أكثر من ثلاث مئة ألف ريال إيراني.
لا دولة في ظلّ محاولة إبعاد لبنان عن منظومة المصالح العربيّة لأنّها رئته الاقتصادية والثقافية…
لا دولة في ظلّ رفض قرارات الشرعيّة الدوليّة والإيهام بأنّ عقوباتها غير ذي جدوى، فيما يهرول البعض إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل بعد أول رشّة عقوبات…
لكلّ ذلك نزداد تعلّقاً بالطائف والدستور والشرعية العربية وقرارات الشرعية الدولية: إنّها الثلاثيّة الوطنيّة الحقيقية…
الخوف من القوة العاتية والغاشمة لا يمنعها من أن تجرفنا. من حقنا، بل من واجبنا، أن نواجه الحقائق، وأن لا نغضّ الطرف خوفاً أيّاً تكن التحديات والتهديدات
وأريد أن أتوجّه لمن جعل من محاربة الفساد معركته الأولى والأخيرة: محقّ أنت في محاربة الفساد، فهو داء عضال قاتل. لكن كيف تحاربه وقد كرّس البعض مقولة: “ارتكب كي أحميك تصبح مرتهناً لي وشريكاً لي”…
أليس هذا ما يحدث؟ من يغطّي الفساد ويسمح به؟
من يمنع الأمن الرسمي من دخول مناطق معيّنة؟
من يمنع التحقيق في انفجار المرفأ أن يذهب إلى النهاية أو بالأحرى “البداية” ليقول لنا من أدخل النيترات إلى لبنان ومن كان مالكها ومستعملها؟
من يمنع حتى التحقيق الأوّلي في انفجار عين قانا؟ وهل حدث انفجار في عين قانا؟ حتى الإعلام الحرّ تناساه…
من يغطّي التهريب في المرفأ والمطار وعلى الحدود السورية ويمنع الجيش والقوى الأمنية أن تقوم بدورها بالكامل؟
من يحمي الفاسدين المتجذّرين في السلطة، ويؤمّن لهم الاستمرار والغطاء في الأمن والقضاء والسياسة؟
الجميع يدرك الجواب ويعلم أنّ السلاح غير الشرعي هو حامي الفساد والأول في هذا البلد، سلاح الميليشيا والوصاية الإيرانيّة…
كيف تريدوننا أن نخرج من القعر الذي انحدرنا إليه؟
المشكلة ليست في عوارض المرض، بل في المرض الخبيث الذي يأكل جسد الوطن تدريجياً.
نستطيع أن نتجاهل هذه الحقائق لبرهة من الزمن وربّما طويلاً، وننتهي جثّة هامدة كشعب ووطن ووجود.
الخوف من القوة العاتية والغاشمة لا يمنعها من أن تجرفنا. من حقنا، بل من واجبنا، أن نواجه الحقائق، وأن لا نغضّ الطرف خوفاً أيّاً تكن التحديات والتهديدات…
الخوف يقتل الجبناء قبل العاصفة، ويوهمهم بجنة المصالح…
الدعوة هي لمبادرة وطنيّة جامعة تعيد بناء صفٍ وطنيّ متراصّ يتجاوز المناطق والطوائف والخصوصيات حفاظاً على لبنان الواحد الموحد الذي لا وجود له دون عيش مشترك بخيار وطنيّ وقرار لبناني دون وصاية، أيّة وصاية كانت.
لبنان الحريّات، لبنان الديمقراطية الحقيقية، العدالة في القرار والخيار كما نصّ عليه الدستور. وفي المناصفة حيث يجب، وفي الكفاءة في كلّ مكان، والمساواة أمام القانون والمحاسبة في كلّ أوان.
العودة إلى الأساس هي الحلّ لنرسم معاً طريقاً مختلفاً عن من يريد أن يجرفنا إلى جهنم…
*النص الحرفي للمداخلة التي ألقاها النائب والوزير السابق أحمد فتفت في اللقاء الذي عُقد يوم الثلاثاء بتاريخ 27 تشرين الأول 2020 في نقابة الصحافة بحضور حشد من الأحزاب والتجمعات والشخصيات السياسية والإعلامية والنقابية لإطلاق برنامج مرحلي مشترك لإنقاذ لبنان.