ما كاد الرئيس الشيشاني رمضان قديروف يعلّق على جريمة قتل الشاب الشيشاني عبد الله يزيدوفيتش أنزروف للمدرّس الفرنسي صاموئيل پاتي، بأنه “ليس للإجرام وطن”، هو المتهم بتعقّب معارضين له وتصفيتهم حتى في إسطنبول او فيينا، حتّى أرفق ذلك بالتشديد على أنّ الجاني انزروف “لا يحمل أيّ ثقافة شيشانية”، بما أنه عاش كلّ حياته تقريباً في فرنسا، ودخل مدارسها، ويتكلّم لغتها.
إقرأ أيضاً: المسلمون عالقون بين اليمين الفرنسي وجهاديي قطع الرؤوس
وأنزروف – الذي قطع رأس المدرّس پاتي بالسكين، على خلفية حملة طاولت المدرّس انطلاقاً من بعض أولياء التلامذة المسلمين بعد عرضه كاريكاتيرات شارلي إيبدو في الصف في درس عن حرية التعبير، ضمن مادة التربية المدنية – عمره من عمر تدمير روسيا للشيشان، وتنصيبها آل قديروف على حكم البلد المحطّم، لرعاية عملية بنائه من جديد، على أسس تناغم بين تقديم فروض الطاعة لفلاديمير پوتين، وبين المحافظة الدينية، والبطش بالمعارضين، وبين الرعاية الروسية لديبلوماسية شيشانية خاصة تجاه البلدان العربية والإسلامية. وهذا امتياز لا تحظى بمثله أيّ جمهورية حكم ذاتي أخرى ضمن روسيا الاتحادية.
بيد أنّ تصريحات قديروف حول الجريمة المروّعة لم تتوقف هنا. أخذ يرفع يوماً بعد يوم، وطيلة الأسبوع الأخير، من انتقاداته لباريس. اتّهمها أوّلاً بالخلط بين الديموقراطية وبين الاستهتار بكرامات المسلمين. ثم “فسّر” الجريمة بأنّها كانت عن تصميم ووعي من قبل الشاب، انطلاقاً من قناعته بأنّ الدولة الفرنسية لا تنصت للمواطنين المؤمنين، بل وتجافيهم. واعتبر قديروف أنّ هذه القناعة صحيحة، بقطع النظر عن الفعل المدان. ثم عاد قديروف وقدّم “النصح” للدولة الفرنسية بأن تستحدث مؤسسة رسمية خاصة تعنى بتنظيم العلاقات بين الطوائف والثقافات داخلها إذا ما أرادت بناء مجتمع سليم معافى. ثم اتّهم الرئيس الفرنسي بالإساءة عمداً ضدّ نبي الإسلام والمسلمين، وبالتواطؤ مع الجهاديين، وحمّله مسؤولية مسبقة عن ردّات الفعل.
قديروف قدّم “النصح” للدولة الفرنسية بأن تستحدث مؤسسة رسمية خاصة تعنى بتنظيم العلاقات بين الطوائف والثقافات داخلها إذا ما أرادت بناء مجتمع سليم معافى
وقد سبق لقديروف أن قاد التظاهرات بنفسه في غروزني قبل خمسة أعوام ضدّ كاريكاتيرات مجلة “شارل إيبدو”، مثلما سبق له عام 2016 رعاية مؤتمر عالمي لعلماء الدين في غروزني بحضور شيخ الأزهر أحمد الطيب، وبقصد ضبط تعريف من هم “أهل السنّة والجماعة” ومن هم خارج أهل السنّة، بما أثار وقتها حفيظة كلّ من “هيئة كبار العلماء بالسعودية”، والشيخ يوسف القرضاوي في قطر، واعتبر محاولة لإخراج كلّ من الوهابية والإخوان المسلمين في وقت واحد من تعريف “أهل السنّة والجماعة”. كذلك ربطت وثائق هذا المؤتمر وبيانه الختامي بين تنظيم الدولة (داعش) وبين الخوارج في القرن الأوّل للهجرة. قديروف يُعلي في الوقت نفسه من نجاعة الحلّ الروسي للمسألة الإسلامية، أو لنقل “المسألة – إسلام”، مثلما يطرح نموذجه التسلّطي في الشيشان، والمهادن لموسكو، كقدوة علّها تتبع بين المسلمين.
إذا ما وضعنا جانباً الحصيلة الدموية لإخضاع روسيا للشيشان، والتي يتحمّل قسط غير قليل من المسؤولية فيها تحوّل الكفاح فيها من وطني تحرّري إلى جهادي متطرف، فإن مشكلة من شرّدتهم حربا الشيشان لا يمكن غضّ الطرف عنها. مثلاً في فرنسا وحدها هناك بين 30 و50 ألف شيشاني (في مقابل 1.2 مليون نسمة في الشيشان نفسها)، القسم الأكبر منهم من اللاجئين الشرعيين، كحال الشاب الجاني أنزروف.
سبق لقديروف أن قاد التظاهرات بنفسه في غروزني قبل خمسة أعوام ضدّ كاريكاتيرات مجلة “شارل إيبدو”، مثلما سبق له عام 2016 رعاية مؤتمر عالمي لعلماء الدين في غروزني بحضور شيخ الأزهر أحمد الطيب، وبقصد ضبط تعريف من هم “أهل السنّة والجماعة”
بخلاف مشكلة نسبة غير قليلة من التلامذة المتحدّرين من أصول شمال أفريقية مع المدرسة في فرنسا، يعتبر اللاجئون الشيشانيون أكثر اندماجية بكثير على الصعيد التربوي. التسرّب من المدارس بينهم أقلّ، ويتابع معظم التلامذة منهم صفوفه بنجاح، يتمرّسون باللغة الفرنسية ولا يسعون إلى كسرها بشكل شبيه بما بات يعرف بلغة الضواحي، عند أبناء المهاجرين الشمال افريقيين والأفريقيين، مع أنّهم لا يأتون من بلد فرنكوفوني، بخلاف شمال أفريقيا وغرب أفريقيا.
في الوقت نفسه، قدّرت نسبة الشيشانيين الذين “هاجروا” للقتال في الشام والعراق في صفوف “داعش” انطلاقاً من فرنسا بما لا يقلّ عن العشرة بالمئة، وملفات منحى التطرّفradicalisation المتعلّقة بجزء من شبابهم تميل إلى التزايد. لكنها ليست حالة الجاني أنزروف نفسه. لم يظهر عليه في الملفات، أيّ شبهة تطرّف ولا حتى تزمّت أو تعصّب. إقامته شرعية كلاجىء، جدّدت في آذار الماضي لعشر سنوات إضافية. عرف عنه الدخول في بعض العراكات الحادة عندما كان مراهقاً، ثم مال إلى العزلة والمسالمة في السنوات الأخيرة. وهناك من يردّ هذه المسالمة إلى مواظبته على الصلاة، وهناك من يطعن في الأمر، ويشكّك في أنّه قد ظهرت عليه أيّ ملامح تديّن من أيّ نوع، مع ترجيح الميل إلى الانطوائية، والتهذيب المقتضب في ردّ التحية لجيرانه، لا أكثر ولا أقل. لم يظهر بعد، أنّ هذه الانطوائية عن العالم الخارجي كانت تدفعه أكثر للتواصل مع الفكر المتطرّف العنيف عبر الإنترنت، وفقاً لنظرية الإرهاب الـfreelance .
من كلّ ما قيل وأعيد وكرّر حول الجريمة، يبقى كلام الرئيس الشيشاني قديروف الأكثر دقة من ناحية أنّ الجاني كان يعي ما يقوم به.
لم يقم بما قام به عن معرفة، لكنّه لم يقم بما قام به أيضاً عن جهل. ليس هناك ما يسمح بالقول – حتى الآن – بأنه كان عصابياً أو موتوراً. كان يدرك السبب الذي يجعله يتحرّك لجزّ رأس المدرّس. لم يكن “مغسول الرأس” وهو يقطع الرأس.
لسنا هنا أمام حالة متأتية عن أدلجة متطرّفة ممنهجة، ولا عن تديّن متصلّب، ولا عن اتصال بجماعة متطرّفة، ولا حتى عبر الفضاء الافتراضي. لا يعني ذلك أنّ هذه الجريمة من دون دافع هوياتي عدواني صميم ومصمّم. لكنه دافع مرتبط بحالة من حالات “ناقص الأسلمة” وليس” زيادة في الأسلمة”.
ربما كان بالمستطاع إدراج موقف ذوي التلامذة ضد المدرّس في خانة الأسلمة الزائدة. أما أنزروف فيظهر عليه بالمقابل منحى “ناقص الأسلمة” أو الأسلمة المنخفضة الوتيرة إلى حدّ أنّها غير ملحوظة.
رمضان قديروف يطرح نفسه كقدوة لرجعة الإسلام إلى الوسطية. تحت رعاية موسكو، إنّه الرجل الأقوى في السلطة الشيشانية الموالية لموسكو منذ مقتل والده المفتي ثم الرئيس الشيشاني أحمد قديروف عام 2004
في الوقت نفسه، هناك شيء لم يحتج هذا الشاب لا لتأصيله لا في نصّ، ولا لمراجعة مرجع، كي يقتنع به ويقدم عليه: إنّ عليه قتل مدرّس، ليس كفريضة دينية صرف، إنما كواجب أخلاقي، بكلّ ما في ذلك من مفارقة صارخة، تطرح بُعداً آخر لما أسمته الفيلسوفة حنة أرندت “تفاهة الشرّ”. الشرّ المختبئ وراء عاديته في هذه الحالة، ليس لأنّه يخبّئ وراء عاديته شيئاً آخر سوى عاديته نفسها. اقتناعه بأن قتل لمدرّس فرنسي عادي، في مدرسة عمومية عادية، هو الغاية النهائية في حياته العادية على هذه الأرض. وهنا يظهر الاختلاف أيضاً بينه وبين ذوي التلامذة الذين حرّضوا على المدرّس عبر مواقع التواصل الاجتماعي. هم حرّضوا على پاتي باعتبار أنه تجاوز حدوده التربوية كمدّرس. هو قتله للسبب المعاكس تماماً: لأنه ينفّذ سياسة رسمية اعتبرها معادية له وللإسلام والمسلمين. هذا من دون حاجة إلى معرفة مسهبة، ولا حتى إلى معرفة بالحدّ الأدنى، عن الإسلام، ولا حتى تقيّد بأيّ خطاب أيديولوجي يقدّم الإسلام في إطار جهادي، ومن دون حاجة لاستشارة أيّ أحد آخر من المسلمين. كما لو أنّه يحتكم فقط إلى صوت في داخله، واضح حاسم، بأن المدرّس، وليس الشرطي مثلاً، ولا رسام الكاريكاتير، هو التكثيف لهذه الدولة.
أهالي التلامذة أكثر تحفّظاً وتزمّتاً و”أسلمة” من أنزروف، لكنهم تحرّكوا باعتبار أنّ المدرّس تخطّى حدوده، وهو تحرّك وقتل باعتبار أنّ المدرّس لا يقوم بشيء من عنده، بل هو يجسّد المدرسة العمومية، وسلطة الدولة. وعلى هذا، إذا ما انطلقنا به من وصف قديروف لأنزروف بأنّه قتل “عن وعي وتصميم”، جاز الافتراض أيضاً بأنّ أنزروف قَلَبَ في مكان ما المسائل: الدولة لم تكتفِ بالدفاع فقط عن رسوم شارلي إيبدو انطلاقاً من مبدأ يقول بحرية إيصال الأفكار، إنما تذرّعت بهذا المبدأ كي تتبنّى هذه الرسوم، والدليل أنّ مدرّساً يعرضها. ليس هناك فارق بين الدفاع عن الرسوم انطلاقاً من مبدأ حرية وبين تبنّي الدولة لها واستعبادها المسلمين بها: إذا كانت الجريمة عن وعي وتصميم، فإنّ منطق الجاني يقود إلى هنا.
ناقص الأسلمة لشاب تهيمن صفته كلاجىء شيشاني على صفته كمسلم، في مجتمع ما بعد مسيحي، لا يجعل منه ما بعد إسلامي، يكتفي مثلاً بالتعامل مع الإسلام كجذور ثقافية روحية له: بالعكس تماماً، جعله هذا أكثر عدوانية من الأهالي الذين أظهروا فائض أسلمة. هم تحرّكوا لأنهم رأوا أنّ المدرّس تجاوز حدوده الوظيفية، وهو قطع رأسه اقتناعاً منه بأن هذه هي وظيفة المدرّس في الحياة (التدنيس)، وأنّ قتل المدرّس وظيفته النهائية (التطهّر) لاختتام حياته عند سنّ الرشد.
نحن هنا أمام حالة تطبيقية مريعة من حالات ما كان يسميه الفيلسوف الإيراني الراحل داريوش شايغان “سكزيوفرينيا ثقافية”. لكنّ معالجة مشكلة “ناقص الأسلمة” كما لو كانت هي مشكلة “زائد الأسلمة”، تبدو كمعالجة عدوى فيروسية بـ”الأنتيبيوتيك”.
ربما تكون مشكلة أساسية ينبغي التفكّر بها أنّ الإسلام المعاصر الذي تنتابه عمليات إعادة أسلمة ونزع أسلمة متداخلة بأشكال مختلفة للغاية منذ قرنين أو ثلاثة، لا يتمكّن بين الأسلمة الزائدة والأسلمة الناقصة من إعادة تحقيق ما شكّل تاريخياً نظرته لنفسه كدين الوسط (بما في ذلك التوسط بين اليهودية والمسيحية).
المفارقة أنّ رمضان قديروف يطرح نفسه كقدوة لرجعة الإسلام إلى الوسطية. تحت رعاية موسكو. يبلغ 44 عاماً من العمر الآن، وهو رئيس جمهورية الشيشان التي هي جزء من جمهورية روسيا الاتحادية مذ كان عمره 30 عاماً، ورئيس للوزراء قبل ذلك. إنّه الرجل الأقوى في السلطة الشيشانية الموالية لموسكو منذ مقتل والده المفتي ثم الرئيس الشيشاني أحمد قديروف عام 2004. وكان والده نقل البندقية من محاربة الروس إلى محاربة بني قومه في حرب الشيشان الثانية، مسوّغاً ذلك بأنّ الجهاديين، وبخاصة “الأفغان العرب”، سمّموا الحركة الانفصالية.
وآل قديروف يتسمّون كذلك نسبة إلى الطريقة الصوفية القادرية، نسبة إلى سلطان الأولياء عبد القادر الجيلاني. أكثر الشيشانيين يتبعون القادرية، وبدرجة أقلّ بقليل النقشبندية. بإزاء النموذج الذي يمثّله الإمام المجاهد شامل الداغستاني النقشبندي في القرن التاسع عشر، يعكف آل قديروف على مركزة الحياة الدينية الصوفية في الشيشان حول ضريح وتعاليم الولي الصوفي القادري الشيشاني الشيخ منصور كونتا حجي كيشي من القرن التاسع عشر أيضاً. بخلاف شامل كنموذج للجهاد ضدّ الروس، والتحالف مع العثمانيين، كان كونتا حجي كيشي داعية للمهادنة والمراعاة. بل إنّ آل قديروف يقدّمونه على أنّه أوّل من نظّر للاعنف في العصر الحديث، وأنّه “غاندي القوقاز”. هذه النظرية لا تمنعهم من البطش بأخصامهم، لكنها تسوّغ لهم الاستقواء بموسكو على بني قومهم، مع تقديم أنفسهم في الوقت نفسه على أنهم يتمتعون بإدارة ذاتية لا يتمتع بها أيّ اقليم أو جمهورية حكم ذاتي أخرى ضمن روسيا الاتحادية. وعلى الرغم من أنّ قديروف نفسه محظّر عليه دخول بلدان الاتحاد الأوروبي لارتكاباته، وعلى الرغم من أنّ أكثر اللاجئين إلى أوروبا لا يمكنهم الرجعة إلى الشيشان وهي تحت سيطرته، فإنه يسعى كذلك إلى خرق هذا الحصار، مرة بغيرة الدين، ومرة بمجموعة الأزياء المحتشمة دينياً، وعلى الموضة التي تعرضها مصمّمة الأزياء عائشة قديروفا ابنته، بما في ذلك في العاصمة الفرنسية.
أنزروف، الشاب الجاني، وقديروف الذي يطبق على حكم الشيشان منذ مطلع الألفية، ولم يتجاوز عمره بعد الـ44 عاماً. الأوّل قام بجريمة هوياتية تشهد في الوقت نفسه على نقصان أسلمته، وليس ازديادها، والثاني له ضلع في التسبّب بأن يكون أنزروف ومجايلوه من الشباب الشيشاني في فرنسا وليس في بلادهم القوقازية. والأهم، أنّ الثاني، أي رمضان قديروف، يحدّد المشكلات بشكل صحيح. يقول لنا إنّ الشاب ارتكب الجريمة عن وعي ذاتي مستقلّ، وهذا صحيح وأساسي ومغفل في الكثير من التعليقات والمواقف. ويقول منذ سنوات ما معناه إنّ المشكلة تكمن في الاغتراب عن الدين، كما في التطرّف الديني، وهذا صحيح أيضاً. أي أنّ المشكلة مزدوجة: زيادة في الأسلمة ونقصان في الأسلمة، غلوّ وجحود، بما يضعف من حسّ الوسطية وتشرّب التقاليد الروحية، وهذا صحيح إلى حدّ كبير، أيضاً. ويقول لنا إنّ نموذج الإمام شامل لا يستأثر بكلّ التراث الديني الإسلامي للقوقاز، فهناك منهاج الشيخ كونتا حجي كيشي، وهذا سليم أيضاً. بعد كلّ هذه المواقف السليمة، يقول لنا رمضان قديروف إنه عليكم حذو حذوي، وهذا ما هو غير صحيح ولا سليم بتاتاً، بل إنه من صلب “المشكلة”.