لبنان يقاطع العالم: “ألو، هل تسمعني؟”

مدة القراءة 4 د


يمكن فهم، بل يمكن تشجيع اللبنانيين الذين يقومون بمقاطعة “إسرائيل”، وكلّ ما يمتّ إليها من بضائع ومصالح وسواها من “مواد” التطبيع مع العدو. والمقاطعة شكل من أشكال الحرب، ومحاولة إيلام اقتصادية وثقافية للعدو. ويمكن فهم طبعاً قرار لبنانيين مقاطعة بضائع دولة معيّنة تدعم العدو، كالولايات المتحدة الأميركية، التي للمفارقة تدعم الآن عينه لبنان الرسمي وتقدّم مساعدات مالية وعسكرية و”ثقافية” لمؤسسات لبنانية رسمية من وزارات وبلديات على الأراضي اللبنانية كافة. وقد يُفهم أيضاً موقف لبنانيين آخرين، كالأرمن مثلاً، من تركيا، ومقاطعتها ثقافياً واقتصادياً وسياسياً.

إقرأ أيضاً: هذه هي الأخطار على ديننا

وبما أنّ أموراً كهذه يمكن تفهّمها، يصير غريباً أن لا نتفهّم مثلاً مقاطعة قسم من اللبنانيين لإيران ومنتجاتها ورفض مساعدتها على مستوى تأمين النفط أو الكهرباء. في مقابل مقاطعة قسم آخر من اللبنانيين للسعودية ومنتجاتها، على اعتبار أنهم في صراع محاور إقليمي معها. وستجد لبنانيين يقاطعون قطر، وآخرين يقاطعون ألمانيا لأنها وضعت “حزب الله” على لوائح الإرهاب. وأخيراً، يخرج لبنانيون ليشاركوا في حملة “إسلامية” لمقاطعة فرنسا بسبب الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد، وهي حملة سبقتها واحدة مماثلة قبل أكثر من عقد للبضائع الدنماركية. وستجد في النهاية أنّ لبنان، عملياً، يقاطع الجميع، ولا يقاطع أحداً. 

لبنان بهذا المعنى سنترال مزدحم، والمتصلون يصدرون ضوضاءً كبيرة، وكلّ واحد منهم يحاول أن يسأل المتلقّي في الجهة المقابلة: “ألو، هل تسمعني؟”، وحتى الآن، لا يسمع اللبنانيون في سمّاعاتهم سوى: “توت توت توت”

تتحكّم مجموعة من العصبيات في سلوك الجماعات اللبنانية، كلّ منها على حدة، ويصعب مع وجود التعصّب الوصول إلى تعاون بين البشر إذا كانت لديهم اهتمامات منفصلة أو متنتاقضة، أو لا يكنّون لبعضهم البعض مشاعر طيبة، ويشعرون أنهم غير متساوين، أو ببساطة لا يفهمون بعضهم البعض. عالم الاجتماع الأميركي ريتشارد سينيت خصص كتاباً (“في مواجهة التعصّب – التعاون من أجل البقاء“- دار الساقي 2016) لمحاولة تفسير تفكّك التعاون مع الآخر ليحلّ مكانه نوع من العلاقات القبلية التي تبحث عن حالات تضامن مع آخرين مشابهين، وعن أشكال عدائية ضدّ من هو مختلف عنا.

برأي سينيت أنّ التحدّي الأساسي يكون في الاستجابة للآخرين وفق شروطهم هم: “هذا هو التحدّي الماثل أمام كلّ إدارة لأيّ صراع كان”. يستشهد سينيت بعالم نفس الأطفال إيريك إريكسون، الذي يرى أنّ التعاون يسبق التفرّد، وأنّ التعاون هو أساس التطوّر البشري. إننا نتعلّم كيف نكون سوية قبل أن نتعلّم كيف نقف منفصلين. وهذه بديهية بحسب سينيت: “لن نستطيع التطوّر كأفراد في عزلة”. وفي إسقاط على الحالة اللبنانية، لن يستطيع لبنان، بانفصالاته الداخلية التي تعكس انعزالات متنوّعة عن الخارج المتنوّع، أن يتطوّر ويتقدّم. لكن إذا دقّقنا أكثر في الحالة اللبنانية، لوجدنا أنها بما تحمله من حالات سوء فهم وانفصال واعتراضات مؤقتة ونقد ذاتي، ليست سوى اختبارات لكيفية إقامة العلاقة مع أطراف آخرين، أكثر من كونها طريقة للانكفاء.

سلافوي جيجك يجد طريقة تبسيطية لشرح هذه الحالة التي يسمّيها “خواء الاحتكاك”، أي إنّه نوع من الاحتكاك بالمقاطعة. أو شيء من الاختبار للعلاقة – القطيعة. يشبّهها جيجك بعبارة “ألو، هل تسمعني؟”. وفيها استكشاف ما إذا كان هناك “حرارة” في الخطّ. في الوقت نفسه يحاول المتكلّم والمخاطَب استكشاف ما إذا كانا يعتمدان منظومة رموز (شيفرة) مشتركة. المقاطعة فيها شيء من هذا الاختبار، هدفه لفت النظر، والحوار، لا المقاطعة الفعلية. إنّ من يقاطعون اليوم في لبنان البضائع الفرنسية، يحاولون الاتصال بهذا الأسلوب بفرنسا ليتأكدوا من وجود “حرارة” في الخطّ. مثلهم يفعل مقاطعو أميركا وإيران والسعودية وتركيا وقطر وألمانيا… لبنان بهذا المعنى سنترال مزدحم، والمتصلون يصدرون ضوضاءً كبيرة، وكلّ واحد منهم يحاول أن يسأل المتلقّي في الجهة المقابلة: “ألو، هل تسمعني؟”، وحتى الآن، لا يسمع اللبنانيون في سمّاعاتهم سوى: “توت توت توت”.

 

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…