أتت دعوات مقاطعة البضائع الفرنسيّة على خلفيّة أزمة الرسوم الكاريكاتوريّة المسيئة إلى الرسول محمد، في لحظة شديدة الحساسيّة بالنسبة للاقتصاد الفرنسي، وخصوصاً في الضغوط الاقتصاديّة الكبيرة التي تعاني منها أساساً فرنسا منذ تفشّي وباء كورونا. فأرقام هذه السنة لغاية شهر آب تظهر أنّ قيمة الصادرات الفرنسيّة انخفضت بنحو 17% مقارنة بالحقبة المماثلة من العام الماضي، وهو ما أدّى إلى اتساع العجز في الميزان التجاري لفرنسا – أي الفارق بين إجمالي صادراتها وإجمالي الواردات – إلى ما يقارب الـ 7.7 مليار يورو في شهر آب وحده. مع العلم أنّ صندوق النقد الدولي يتوقّع أن تؤدّي كلّ تلك التطوّرات إلى انكماش الناتج المحلّي الحقيقي في فرنسا هذا العام بنحو 9.8%.
إقرأ أيضاً: مصرف لبنان جفّف الليرة.. فانخفض الدولار
باختصار، لدى فرنسا ما يكفي من مصاعب اقتصاديّة قبل دخولها في معمعة مقاطعة بضائعها في الدول الإسلاميّة. أما ما يزيد الطين بلّة، فهو حقيقة أنّ صادرات فرنسا إلى دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحدها بلغت عام 2019 حدود 41 مليار دولار، وهو ما يمثّل وحده 7.4% من إجمالي الصادرات الفرنسيّة. مع العلم أنّ هناك تقديرات تشير إلى أنّ إضافة البضائع التي تستوردها الدول الإسلاميّة الأخرى خارج هذه المنطقة يمكن أن ترفع هذا الرقم إلى نحو 50 مليار دولار. وهنا يشير بعض المتابعين إلى أنّ مشكلة فرنسا الأساسيّة هي في كون ميزانها التجاري يسجّل فائضاً مع هذه الدول بالذات، أي أنّ حجم صادراتها إلى هذه الدول تحديداً يفوق حجم وارداتها منها، وهو ما كان يخفّف من العجز في الميزان التجاري العام لفرنسا.
يمكن القول إنّ حملات المقاطعة ستترك بلا شك أثراً في الصادرات الفرنسيّة والاقتصاد الفرنسي عموماً على المدى القصير، خصوصاً بالنظر إلى حجم التفاعل على المستوى الشعبي مع هذه الدعوات، وأثرها في نوعيّة المنتجات التي يعرضها التجّار
عمليّاً، يمكن القول إنّ الأزمة الأساسيّة التي قد تواجهها فرنسا حاليّاً تكمن في قرارات المقاطعة التي بدأت تتخذها المتاجر والأسواق الكبرى في بعض الدول العربيّة والإسلاميّة وتحديداً الخليجية، كنتيجة للحملات واسعة النطاق التي شهدتها وسائل التواصل الاجتماعي. فاتخاذ هذا النوع من القرارات على مستوى تجّار الجملة والمفرّق، سيعني عمليّاً فرض عمليّة المقاطعة بمعزل عن مستوى تجاوب المستهلكين مع هذه الحملات. ولعلّ الكويت تحديداً تمثّل نموذجاً واضحاً من حيث تجاوب التجّار مع هذه الحملات، وخصوصاً بعد أن أعلنت 5 أسواق شعبيّة وشهيرة في مجال تجارة التجزئة وقف استيراد جميع البضائع الفرنسيّة بمختلف أصنافها، فيما قرّرت أكثر من 52 جمعيّة استهلاكيّة معروفة سحب البضائع الفرنسيّة عن رفوفها.
بذلك، يمكن القول إنّ حملات المقاطعة ستترك بلا شك أثراً في الصادرات الفرنسيّة والاقتصاد الفرنسي عموماً على المدى القصير، خصوصاً بالنظر إلى حجم التفاعل على المستوى الشعبي مع هذه الدعوات، وأثرها في نوعيّة المنتجات التي يعرضها التجّار. لكنّ التحليلات الاقتصاديّة تستبعد أن تترك هذه التطوّرات الكثير من الأثر على المدى الأطول، خصوصاً أنّ التجارب السابقة، كدعوات مقاطعة البضائع الأميركيّة والدنمركيّة في الماضي، أظهرت أنّ هذا النوع من الحملات غالباً ما يظهر كردّات فعل شعبيّة انفعاليّة سريعة، دون أن يحافظ على الزخم والإصرار المطلوب لاستمراره على المدى الطويل. أمّا السبب الأساسي، فهو غالباً احتكام الأسواق إلى قواعد العرض والطلب وتنافسيّة البضائع من ناحية الجودة والأسعار على المدى الطويل.
وفي هذه النقطة بالتحديد، يشير بعض المتابعين إلى أنّ السيناريو الوحيد الذي يمكن أن تتطوّر حملة المقاطعة لتترك أثرها في المدى الأطول سيكون في حالة اتخاذ قرارات على المستوى الرسمي تحدّ من تدفّق البضائع الفرنسيّة إلى الأسواق الإسلاميّة والعربيّة، من قبيل إلغاء المعاهدات الجمركيّة أو فرض رسوم وإجراءات إضافيّة وغيرها من الخطوات. لكنّ من الواضح أنّ نوعيّة ردود الفعل الرسميّة حتّى الآن توحي بأن معظم الحكومات العربيّة والإسلاميّة اختارت الانسجام في مواقفها مع ردّة فعل الشارع، دون أن تبادر إلى اتخاذ خطوات تصعيديّة ملموسة في وجه الحكومة الفرنسيّة.
يمكن القول إنّ ما يجري مع فرنسا اليوم سيمثّل ضربة محدودة الأثر على المستوى الاقتصادي، خصوصاً إذا لم تُترجم هذه الحملات لاحقاً على مستوى القرار السياسي
وفي كلّ الحالات، من الواضح أيضاً أنّ جزءًا كبيرًا من المصالح الاقتصاديّة والصادرات الفرنسيّة في الدول العربيّة والفرنسيّة يرتبط بشكل رئيسي بمعاهدات واتفاقيّات مع الأنظمة السياسيّة، وهذا النوع من المصالح يصعب أن يتأثّر بالحملات الشعبيّة ما لم تؤثّر بشكل مباشر على القرار السياسي في هذه الدول. فعلى سبيل المثال، تعدّ فرنسا من أكبر مصدّري الأسلحة على مستوى العالم. إذ ترتبط الشركات الفرنسيّة بمعاهدات تسليح مع دول إسلاميّة وعربيّة عديدة مثل تركيا وقطر والإمارات والسعوديّة ومصر وغيرها. وهذا النوع من المعاهدات غالباً ما يكون اتفاقيات ذات طابع إستراتيجي طويل الأمد ولا يتأثّر بتطوّرات ظرفيّة وانفعاليّة. كما ترتبط شركات الطاقة والتكنولوجيا الفرنسيّة أيضاً بمصالح استراتيجيّة في هذه الدول، كحالة شركة “توتال” الفرنسيّة مثلاً التي تجمعها عقود طويلة الأمد مع دول كثيرة ذات غالبيّة إسلاميّة كباكستان وتركيا وبنغلاديش، ومن المستبعد حكماً أن تقرّر هذه الدول إخضاع مصير هذه الاتفاقيات لتأثير حملات المقاطعة.
في الخلاصة، يمكن القول إنّ ما يجري مع فرنسا اليوم سيمثّل ضربة محدودة الأثر على المستوى الاقتصادي، خصوصاً إذا لم تُترجم هذه الحملات لاحقاً على مستوى القرار السياسي. ومن المتوقّع أن يكون مصير حملة المقاطعة هذه كسابقاتها من الحملات التي انطفأ وهجها بعد أسابيع قليلة من إنطلاقتها. فحين يتعلّق الأمر بحروب الاقتصاد والمقاطعة، لا تُقاس الأمور بدرجة الغضب والانفعال، بل بإنتاجيّة الدول وقدرتها على تحدّي المصالح الأجنبيّة الماليّة، أو على الأقل الاستغناء عنها.