لا تختلف إيران عن غيرها من دول العالم التي رحّبت بانتصار المرشّح الديمقراطي جوزيف بايدن بالانتخابات الرئاسية على حساب المرشّح الجمهوري الرئيس دونالد ترامب. فقد بثّ الإعلان عن فوز بايدن حالة من الارتياح في الأوساط الشعبية والسياسية الإيرانية، وولّد حالة من التفاؤل بقرب الخروج من الأزمات التي عانتها إيران جرّاء سلسلة العقوبات الاقتصادية والسياسية والمالية التي فرضها ترامب بعد قرار انسحابه من الاتفاق النووي في نيسان 2018. وذهب بعض الإيرانيين للاعتقاد بأنّ هذا التغيير في الولايات المتحدة سينعكس إيجابياً على التحوّلات الداخلية، ويفتح نافذة أمام القوى الإصلاحية والمعتدلة لالتقاط أنفاسها، واستغلال هذه الفرصة لإعادة ترتيب صفوفها، والعودة إلى ساحة المنافسة كشريك في العملية السياسية، خصوصاً أنّ إيران على أبواب انتخابات رئاسية قد تكون مصيرية لها، ولإيران، والنظام على حدّ سواء.
ردّة الفعل الأولى للأسواق الإيرانية جاءت إيجابية، بحيث شهدت تحسّناً واضحاً في سعر صرف العملة الوطنية (التومان) أمام الدولار الأميركي وهبوط أسعار الذهب والسيارات والمسكوكات الذهبية، واستعادت أسواق الأسهم في البورصة عافيتها إلى حدّ كبير. لكنّ الإدارة السياسية نشطت على خط تقويم المرحلة الجديدة في التعامل مع إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، ومحاولة رصد التداعيات الداخلية والاقتصادية والسياسية لهذا التغيير، والتحدّيات التي قد تواجهها مع ارتفاع إمكانية العودة إلى مسار التفاوض مع واشنطن.
بثّ الإعلان عن فوز بايدن حالة من الارتياح في الأوساط الشعبية والسياسية الإيرانية، وولّد حالة من التفاؤل بقرب الخروج من الأزمات التي عانتها إيران جرّاء سلسلة العقوبات التي فرضها ترامب
كشف المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده عن شروط كمقدّمة لأيّ عملية تفاوض جديد مع الإدارة الأميركية، حاولت رسم الأولويات الإيرانية لأيّ حوار مقبل قد يحصل، وحاولت حصر هذه الشروط في مجالات تتعلّق بالداخل الإيراني، والجانب الاقتصادي، والعقوبات التي فرضها الرئيس المنتهية ولايته. وهي شروط تشكّل محطة أساسية للنظام الإيراني لاختبار نيات البيت الأبيض وجدّيته في فتح صفحة جديدة في العلاقة مع طهران، وإذا ما كانت ستؤسّس لإمكانية انتقال هذه الحوارات والمفاوضات إلى مسائل أوسع تتعلّق بالملفات الشائكة والعالقة بين الطرفين، أي بالبرنامج الصاروخي، والنفوذ الإقليمي، وأمن المنطقة، والدفع باتجاه بناء آلية جادة لاستقرار المنطقة وخفض التوتر فيها.
المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية وضع إطاراً إيرانياً للعودة إلى التفاوض – الذي قد يكون مباشراً – مع واشنطن، من خلال التأكيد على أنّ الطرف الأميركي لا يحقّ له وضع الشروط، لأنّه يعتبر ناقضاً للاتفاق النووي وقرار مجلس الأمن رقم 2231. وقد تسبّب ذلك بإلحاق خسائر بإيران تقدّر بمليارات الدولارات. فالسقف الذي رسمه المرشد الأعلى للنظام يشكّل المظلة التي يجب أن تحكم هذا المسار التفاوضي، ويبدأ باعتراف واشنطن بأخطائها، ووقف الحرب الاقتصادية، والعودة عن الإجراءات التي فرضتها، والالتزام بتعهّداتها، والتعويض عن الخسائر. وهي نقاط تعتبر مقدّمة للجلوس إلى “طاولة مفاوضات” معها، وهي إشارة واضحة تكشف إمكانية أن تتخلّى طهران عن شرط عودة واشنطن إلى طاولة مجموعة 5+1 التفاوضية وفتح مسار تفاوضي مباشر بينهما.
ومن المؤكد أنّ الخارجية الإيرانية لا يمكن أن تذهب لاعتماد هذا الخطاب مع الإدارة الأميركية الجديدة ما لم يكن محلّ إجماع داخل أروقة القرار والنظام، والجهات التي تتولّى مسؤولية ترجمة التوجّهات الاستراتيجية للقيادة العليا، خصوصاً تلك الجهة التي حصر بها مهمة متابعة الاتفاق النووي، أي المجلس الأعلى للأمن القومي.
المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية وضع إطاراً إيرانياً للعودة إلى التفاوض – الذي قد يكون مباشراً – مع واشنطن، من خلال التأكيد على أنّ الطرف الأميركي لا يحقّ له وضع الشروط
وتُعتبر وزارة الخارجية والمتحدّث باسمها ضيفاً دائماً على اجتماعاته العادية والطارئة. من هنا، فإنّ هذا الموقف يكشف أنّ ما قدّمته الخارجية من شروط واشتراطات تشكّل النقاط التي يدور الجدل حولها في أروقة القرار الإيراني. وهي تنطلق من مسلّمة إيرانية تؤكد انتصار إيران في معركة العقوبات الاقتصادية والسياسية التي خاضتها في مواجهة إدارة ترامب، وأنّ من حقها أن تفرض شروطها على أيّ مسار تفاوضي قد تذهب اليه أو تفرضه المرحلة المقبلة مع الإدارة الجديدة.
الإيجابية الإيرانية الحذرة من المتغيّر الأميركي، وجدت صداها لدى أوساط مؤثرة ومعبّرة عن موقف الجناح الأكثر تشدّداً داخل التيار أو المعسكر المحافظ، وترجمتها صحيفة “كيهان” الرسمية والمقرّبة من المرشد في افتتاحيتها ليوم الأحد في الثامن من تشرين الثاني الجاري، إذ وصفت هزيمة ترامب بأنها “لصالح إيران ومحور المقاومة”، وتمنح إيران “الفرصة لاستغلال الإرباكات الأميركية، وإيصال رسالة تؤكد فشل سياسات هذه الإدارة باعتماد سياسية الضغوط القصوى ما يدفعها لمراجعة اعتماد هذا المسار، شرط أن يقوم الجانب الإيراني بدراسة خطواته ومواقفه بشكل صحيح”.
هذه البراغماتية المحافظة في التعامل مع المستجدّ الأميركي، وإن جاءت على حساب رغبة هذا المعسكر التي كانت تنتظر عودة ترامب لترجمة ما كان يجري من تفاهمات غير مباشرة خلف الكواليس بعيداً عن حكومة روحاني وإدارته، إلا أنّها سمحت للأخير بأن يعيد ترميم موقعه الذي تعرّض للكثير من الاستهداف على خلفية الحصار الذي فرضه عليه المحافظون ومحاولة تحميله مسؤولية الفشل في إدارة الأزمة الاقتصادية والتعامل مع آثار جائحة كورونا، من خلال محاولته العودة كشريك في أيّ مسار تفاوضي مع واشنطن في المرحلة المقبلة. هذا على الرغم من إدراكه بأن أيّ خطوة في هذا المسار لن تتبلور خلال المدّة المتبقّية له في موقعه على رأس السلطة التنفيذية، وأنّ المطلوب منه هو استكمال دوره بانتظار استعادة المحافظين لرئاسة الجمهورية، على قاعدة أنّ أيّ مفاوضات مع الإدارة الجديدة في البيت الأبيض لن تنطلق قبل حزيران 2021، وبعد أن يكون بايدن قد انتهى من ترتيب ملفاته الداخلية، واتضحت صورة الرئيس الجديد في طهران والتي لن تكون بالسهولة التي كان يتوقّعها النظام في حال عودة ترامب.
إقرأ أيضاً: فوز بايدن.. هل يُنعش مرشح إصلاحيي إيران؟
وعلى الرغم من محاولة روحاني إظهار أنّ التغيير الذي حصل في الإدارة الأميركية يشكّل “فرصة للإدارة الجديدة للتعويض عن أخطائها الماضية، والعودة لاحترام القواعد الدولية في التعامل والالتزام بالتعهّدات الدولية”، ومع تأكيده على انتصار إيران في الحرب الاقتصادية التي شنّها ترامب، إلا أنّه فتح نافذة باتجاه واشنطن بالتأكيد على أنّ بلاده “تلتزم دائماً بتعهّداتها إذا التزم الآخرون بمسؤولياتهم، وتبنّوا آلية بنّاءة في التعامل مع العالم”، ما يعني أنّ إيران والنظام فيها، تنتظر من إدارة بايدن خطوات إيجابية لملاقاتها، إلا أنّ الواضح لدى القيادة الإيرانية أنّ الأمور لن تكون في حدود العودة إلى الاتفاق النووي، وأنّ المرحلة الجديدة قد تفرض عليها الذهاب إلى اتفاق جديد، عليها العمل على تحسين شروطها، ومن أدوات ذلك رئيس جديد منسجم مع توجهات الإدارة العميقة للنظام بشكل تام ليتولى هذه المهمة.