لم توضع العقوبات الأميركية على جبران باسيل لكي يستمرّ وقعها ومفعولها أيّاماً وحتّى أسابيع معدودة. أحد أهداف هذه العقوبات، هو وقعها بعيد المدى لا على مستوى لبنان وحسب، بل على مستوى المنطقة أيضاً، إذ تأتي بمثابة افتتاح لمسار أميركي تصعيدي ضدّ إيران، في لحظة الانتقال بين رئاستي دونالد ترامب وجو بايدن.
لذا، يمكن تشبيه وقع العقوبات على باسيل بوقع القرار 1559 في العام 2004، الذي رمى إلى فرض ضغوط قصوى على دمشق لقلب الأوضاع في لبنان ضدّها. أي إنّ العقوبات المذكورة هدفها، في شقّها اللبناني، إعادة خلط الأوراق السياسية، ومحاولة تعويض العجز السياسي عن فرض حدّ أدنى من التوازن الداخلي في ظلّ الاختلال الفاضح في موازين القوى لصالح “حزب الله” وحلفائه. وهو ما أشّر إليه بومبيو في تصريحه الثلاثاء عن أنّ “العقوبات على باسيل ستقدّم نتيجة جيدة للشعب اللبناني في التصدّي للقادة الفاسدين”.
وتمثّل الخطوة الأميركية فصلاً متقدّماً من فصول الضغوط القصوى ضدّ “حزب الله”، كجزء من استراتيجية إدارة ترامب ضدّ طهران. والدليل أنّ العقوبات على باسيل كانت أوّل الغيث في سلسلة عقوبات ستفرضها وزارة الخزانة الأميركية مطلع الأسبوع المقبل على أفراد وكيانات ذات صلة بإيران، وهي كانت قد فرضت، الإثنين، عقوبات على ثمانية أفراد و11 كياناً على صلة بالنظام السوري حليف إيران.
يمكن تشبيه وقع العقوبات على باسيل بوقع القرار 1559 في العام 2004، الذي رمى إلى فرض ضغوط قصوى على دمشق لقلب الأوضاع في لبنان ضدّها
وعليه، لا يمكن التعاطي مع العقوبات الأميركية ضدّ باسيل كما لو أنّ مفاعيلها مقتصرة على باسيل و”التيار الوطني الحرّ” وحسب، بل إنّ تبعاتها تطال اللعبة السياسية برمّتها، إذ تكشف على نحوٍ واضح حقيقة التحالفات والتوازنات السياسية في البلد، لا على مستوى متانة التحالف بين الحزب والتيار وحسب، بل على مستوى جهوزية أو استعداد القوى المناوئة للائتلاف الحاكم (الحزب والتيار) للتعاطي مع الخطوة الأميركية ضدّ باسيل بوصفها متغيّراً أساسياً جداً على الساحة الداخلية، وخصوصاً في الوسط السياسي المسيحي.
إذّاك لا يمكن مقارنة تداعيات العقوبات على نائب البترون بتلك التي تركتها العقوبات على علي حسن خليل ويوسف فنيانوس. علماً أنّ العقوبات على رئيس التيار تعكس في سياقها وأهدافها محوريته في اللعبة كنقطة التقاء وتقاطع بين أهداف ومصالح سياسيّة عدّة، لاسيّما بين العهد والحزب. ولذلك لا غلوّ في القول إنّ هذه العقوبات شكّلت، بعد انتفاضة 17 تشرين، المحطّة المفصلية الثانية في المسار السياسي العام منذ تسوية عام 2016. ولعلّ أهميتها تتركّز في مستويين اثنين: مستوى التحالف بين التيار والحزب لجهة مستقبله وآفاقه، ومستوى الحقل السياسي المسيحي، أخذاً في الاعتبار وزن باسيل كرئيس أكبر كتلة نيابية “ذات طابع” مسيحي، وصهر رئيس الجمهورية.
في المستوى الأوّل، كان إعلان باسيل أنّه أبلغ، “المعنيّ الثاني (بعد التيار) بموضوع العقوبات، أي حزب الله عبر السيّد حسن مباشرةً”. وهو تأكيد من قبله على خياره التحالف مع الحزب، مع ما لهذا التأكيد من معانٍ إضافية بعد العقوبات عليه.
ليس المهمّ هنا تفنيد أسباب هذا الخيار وأهداف نائب البترون منه، بل المهمّ الآن أنّ رئيس التيار يبدو أكثر من أيّ وقت محكوم به، وهو محكوم تالياً باستمرار تناقض خياره هذا مع السياسات الأميركية في المنطقة. وقد كانت العقوبات على باسيل أوضح دليل على بلوغ هذا التناقض أقصاه في اللحظة الانتقالية الأميركية.
مع العلم أنّ رئيس التيار الذي “يغازل” الإدارة الأميركية الجديدة، لا يمكنه ضمان أنها ستسقط سياسة العقوبات وتنتهج سياسة حوار وانفتاح (كما دعاها بيان تكتل لبنان القوي الثلاثاء!). لاسيّما أنّ ترامب يعمل على خلق وقائع في المنطقة سيكون من الصعب جداً على بايدن تجاوزها، خصوصاً بالنسبة للملف الإيراني، وبالتحديد لناحية المنظومة الصاروخية البالستية. وما كثافة العقوبات إلا دليل على ذلك، وكذلك الزيارات الأميركية المطّردة إلى المنطقة.
هذه العقوبات شكّلت، بعد انتفاضة 17 تشرين، المحطّة المفصلية الثانية في المسار السياسي العام منذ تسوية عام 2016. ولعلّ أهميتها تتركّز في مستويين اثنين: مستوى التحالف بين التيار والحزب لجهة مستقبله وآفاقه، ومستوى الحقل السياسي المسيحي، أخذاً في الاعتبار وزن باسيل كرئيس أكبر كتلة نيابية “ذات طابع” مسيحي، وصهر رئيس الجمهورية
أمّا في المستوى السياسي المسيحي، فكان لافتاً جداً صمت القوى الرئيسة حيال العقوبات على باسيل. وهو صمت لم يخرقه سوى لقاء “سيدّة الجبل” الذي رفض، في بيانه الأسبوعي الإثنين، محاولة باسيل تحويل العقوبات عليه إلى مظلومية مسيحيّة. كما طالب باستقالة رئيس الجمهورية “لأنها حاجة لكي يستعيد المسيحيون دورهم، الذي أفقدهم إيّاه المسار الذي سلكه الرئيس وتياره صوب تحالف الأقليات في المنطقة”. أي إنّ اللقاء قدّم سردية مضادة لسردية باسيل الذي حاول تصوير العقوبات كما لو كانت استهدافاً للمسيحيين مستلهماً سرديّات قديمة عن مساعٍ أميركية لتهجير المسيحيين من لبنان، وبالأخص رواية المبعوث الأميركي دين براون في جامعة الكسليك والتي لم تثبت صدقيتها!
لكن هل يمكن لهذه القوى أن تظلّ صامتة عن محاولة باسيل تصوير العقوبات ضدّه كما لو أنّها ضدّ المسيحيين؟
هذا الصمت، فضلاً عن كونه تمكيناً لنائب البترون في خطّته هذه، فهو يؤكّد عدم وجود طرح سياسي مسيحي (على مستوى القوى الرئيسية) مستقل أو مناوئ في العمق لطرح رئيس التيار. وهذا ما يحاول الأخير الإفادة منه لخلق رأي عام مسيحي متعاطف معه، أقلّه في البيئة العميقة للتيار.
لكن ما هي حظوظ نجاج باسيل؟
الإجابة هنا يفترض أن تأخذ معطيين في الاعتبار:
– الأوّل: هو انشداد المسيحيين التاريخي صوب الغرب في وقت العقوبات على باسيل تذهب في اتجاه معاكس رمزياً وسياسياً.
– والثاني: أنّ البرجوازية المسيحية التي تحلّقت حول باسيل طيلة الفترة الماضية ستحاذر في الفترة المقبلة منالمخاطرة بتهديد مصالحها من خلال البقاء في دوائر نائب البترون.
إقرأ أيضاً: باسيل من رتبة “حامل صليب” إلى “تاجر شنطة”!
في المحصّلة، فإنّ باسيل “المجروح” بات مرغماً على السير في الطريق الصعب نحو رفع العقوبات عنه، وهو طريق شجّعته السفيرة الأميركية على السير به!
من الواضح، في الموازاة أنّ رئيس التيار كلمّا اشتدّ ضيقه لجأ أكثر إلى التصعيد وحيثما استطاع. والحال هذه، فما هي خطّة الأحزاب المسيحية الأخرى؟ هل ستحاول الإفادة من إرباك وتراجع باسيل بعد تلقّيه الضربة الأميركية الموجعة جدّاً؟ أم هي الأخرى تنتظر الإدارة الأميركية الجديدة؟ وكيف ستتعامل بكركي مع الأمر؟!