مع الإعلان عن انتصار المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية وهزيمة منافسه الرئيس دونالد ترامب، انهارت كلّ المحاذير والحواجز النفسية التي كانت تحكم الوسط السياسي الإيراني في الحديث عن هذه الانتخابات ونتائجها وانعكاساتها على الوضع الإيراني الداخلي والإقليمي والدولي. وتراجعت كلّ محاولات الالتزام بالسقف الذي حدّده المرشد الأعلى للنظام، ومحاولته تكريس معادلة أنّ الموقف الإيراني لا يتبدّل من الإدارة الأميركية مع ذهاب رئيس ومجيء آخر، وأنّ الثنائي ترامب وبايدن وجهان لعملة واحدة.
وعلى الرغم من حجم المكابرة التي أبدتها القيادات الإيرانية في محاولة إظهار عدم اهتمامها بمسار السباق الرئاسي الامريكي ونتائجه، إلا أنّ صوت تنفّسها الصعداء سُمعت أصداؤه في كلّ عواصم العالم، خصوصاً تلك المعنيّة بالأزمة القائمة بين طهران وواشنطن. وسرت رعشة الارتياح في اللوحات الحمراء لسوق البورصة في طهران، فاخضرّت لبعض الوقت صفحاتها، وترنّح سعر الدولار أمام التومان الذي راحت قامته تستقيم بعد أن أجهدته ضغوط الانهيار الهائلة التي تعرّض لها في الأشهر الأخيرة مستعيداً بعضاً من قوته وقيمته التي بلغت 22 ألفاً بعد أن وصلت إلى 32 ألفاً قبل الانتخابات. إلا أنّ الأسعار في الأسواق لجمت هذه الانتفاضة في سعر التومان، وتمسّكت بما حقّقته من ارتفاع متوحّش في إشارة تكشف عن حقيقة أنّ الحلول الحقيقية للأزمة السياسية والاقتصادية، ما زالت غير قريبة إن لم تكن مستبعدة في القريب العاجل.
في السياسة، تشهد الأوساط الإيرانية جدلاً مفتوحاً حول الاحتمالات والإمكانيات التي يحملها المتغيّر الاميركي، من خروج ترامب ووصول بايدن إلى البيت الأبيض، والجدل حول الانتخابات الرئاسية المقبلة في إيران، حزيران 2021، والعلاقات الإيرانية الخليجية، والحديث عن ضرورة تخفيف التوتر مع دول الجوار ودعوتها للحوار بعيداً عن التشنّج، وفرص عودة الولايات المتحدة الأميركية إلى الاتفاق النووي الذي يمهّد الطريق أمام إمكانية الانفتاح على مجالات جديدة لا يحدّها هذا الاتفاق وبنوده وشروطه.
على الرغم من حجم المكابرة التي أبدتها القيادات الإيرانية في محاولة إظهار عدم اهتمامها بمسار السباق الرئاسي الامريكي ونتائجه، إلا أنّ صوت تنفّسها الصعداء سُمعت أصداؤه في كلّ عواصم العالم، خصوصاً تلك المعنيّة بالأزمة القائمة بين طهران وواشنطن
لا شكّ أنّ المتغيّر الأميركي أعاد خلط الأوراق على المستوى المتعلّق بالانتخابات الرئاسية المرتقبة، فالمعادلة الجديدة في واشنطن أربكت بشكل واضح الخطط التي رسمها أو كان في صدد رسمها، المعسكر المحافظ، للاستحواذ على السلطة التنفيذية، والذهاب بعدها إلى أيّ خيار سياسي تفاوضي معتمداً على قاعدة إمساكه بكلّ مفاصل السلطات ومراكز القرار في النظام والدولة. وقد تدفعه تلك المعادلة لإعادة النظر في خياراته، وتضعه أمام تحدّي البحث عن شخصية محافظة غير مستفزّة داخلياً وخارجياً، وقادرة على قيادة المرحلة المقبلة وملفاتها المتشعّبة والمعقّدة بعيداً عن التوتر، خصوصاً أنّه خسر رهان عودة ترامب الجمهوري الذي يسمح له بالذهاب إلى خيار شعبوي للعب على حافة المواجهة وحدود التفاوض.
في المقابل، وعلى الرغم من الاتهامات التي وجّهها المعسكر المحافظ للتيار الإصلاحي، ووصفه بأنّه الخيار الأميركي داخل النظام، وحجم الإرباك الداخلي بين القوى الإصلاحية في سياق الاتفاق على مرشّح يمثّلها، ويكون قادراً على استنهاض الشارع الشعبي العازف عن المشاركة لإحداث التغيير الذي يريده، فيفرض نفسه شريكاً في السلطة التنفيذية… فإن هذا التيار الإصلاحي استعاد بعضاً من الثقة بالنفس بعد النتائج الرئاسية الأميركية، وعاد إلى دائرة البحث الجدّي عن مرشّح يمثّله بشكل واضح ومباشر، وإلى التخلّي عن دعم مرشّح محافظ معتدل، ما يمكّنه من لعب دور فاعل في الانتخابات، وعدم التسليم للمحافظين.
ولعلّ أحد التحدّيات التي يستشعرها النظام الإيراني بالتزامن مع التغيير الأميركي ما يتعلّق بعلاقته مع محيطه الإقليمي وتحديداً الخليجي، خصوصاً بعد التصعيد والخلاف العامودي الذي طرأ على هذه العلاقة المتوترة نتيجة الخيار الذي ذهبت إليه بعض هذه الدول في السلام مع إسرائيل. والرهان على تحسّن العلاقة بين إيران والمجتمع الدولي قد يساعد إيجاباً على تخفيف التوتر بينها وبين الدول العربية، إلا أنّه لا يلغي أهمية وضرورة المبادرة الايرانية للانفتاح على الجوار وإعادة ترميم العلاقة معه، لبناء سياسة منطقية على أساس من المصالح المشتركة.
التيار الإصلاحي استعاد بعضاً من الثقة بالنفس بعد النتائج الرئاسية الأميركية، وعاد إلى دائرة البحث الجدّي عن مرشّح يمثّله بشكل واضح ومباشر، وإلى التخلّي عن دعم مرشّح محافظ معتدل، ما يمكّنه من لعب دور فاعل في الانتخابات، وعدم التسليم للمحافظين
تدرك الإدارة الدبلوماسية لحكومة الرئيس حسن روحاني، وعلى رأسها وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الآثار السلبية التي لحقت بهذه الإدارة جرّاء تحوّلها إلى ساحة صراع بين قوى السلطة، ومحاولة كلّ منها فرض سيطرتها ورؤيتها على السياسة الخارجية للنظام وتصفية حسابات فيما بينها. كما تدرك ضرورة أن يصار إلى ضبط المواقف الصادرة عن المسؤولين الإيرانيين السياسيين والعسكريين والحدّ من تأثيراتها السلبية في المصالح الإيرانية الاستراتيجية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية بين خروج ترامب ودخول بادين إلى البيت الأبيض، والحدّ من التأثيرات والإشارات السلبية، كمقدّمة لفتح الطريق أمام العمل الدبلوماسي لتغيير الظروف الإقليمية والعلاقات الدولية كنقطة انطلاق عندما تنتقل الإدارة الجديدة للتعامل مع الملفات الدولية.
إقرأ أيضاً: فوز بايدن: تراجع مكانة نتنياهو وتراجع الاهتمام بإسرائيل؟
ولعلّ الحراك الذي سيقوم به ظريف سيشكّل المؤشر الأبرز على القراءة الإيرانية للمتغيّر الأميركي، في وقت يتردّد داخل الأوساط السياسية الإيرانية إمكانية أن يكون ظريف أحد خيارات النظام للسباق الرئاسي المقبل لما يملك من إجماع وقبول بين جميع الأطراف والقوى الداخلية الأساسية، باستثناء تلك التي تطمح أن يكون مرشّحها على رأس السلطة التنفيذية. لذا، فإن الأشهر الثمانية المقبلة من عمر حكومة روحاني ستكون حافلة أمام ظريف ليلعب الدور المطلوب في التواصل مع الإدارة الجديدة، خصوصاً أنّ خيار الحوار والتفاوض بات شبه مسلّم به لدى جميع أركان النظام، ولما يملكه ظريف من معرفة وعلاقات مع معظم الأشخاص المرشّحين لتولّي منصب وزارة الخارجية في إدارة الرئيس بايدن، إن كانت سوزان رايس مستشارة الأمن القومي للرئيس باراك أوباما ومندوبة أميركا الدائمة في الأمم المتحدة، أو السيناتور عن ولاية ديلاوير الديمقراطي والمقرّب من بايدن، كريس كوينز، أو عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ عن ولاية كونيتيكت، السيناتور كريس مورفي الذي تربطه علاقة مباشرة مع ظريف، ولم ينقطع عن التواصل معه خلال ولاية ترامب، أو أنتوني بلينكن الذي عمل خلال الأشهر الماضية مستشاراً أولاً للسياسة الخارجية لحملة المرشح بايدن، فضلاً عن كونه شغل منصب نائب وزير الخارجية ونائب مستشار الأمن القومي.
والرصد الإيراني لمواقف الإدارة الأميركية الجديدة من خلال بوّابة الشخصية التي سيتمّ اختيارها لقيادة الدبلوماسية، دفع الدوائر الإيرانية المتابعة إلى توسيع دائرة الاحتمالات ووضع أسماء أخرى على لائحة المرشّحين لهذا المنصب من ضمنها سامنتا باور مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة، وتوم دانيلون المستشار السابق للأمن القومي ووندي تشرمين وويليام برنز ونيكولاس برنز اللذين شغلا منصب معاون وزير الخارجية. هذه الأسماء كلّها تؤيد العودة إلى التفاوض مع إيران حول البرنامج النووي، أو هي مؤيدة للاتفاق الذي انسحب منه ترامب، وعلى معرفة قريبة بآلية تفكير وعمل الوزير الإيراني ظريف، الذي بدأ يرتّب ملفاته بانتظار لحظة ترفع قيادة النظام إشارة السماح بالعودة إلى طاولة الحوار مع واشنطن. وهي التي تنتظر بدورها انتهاء الرئيس الجديد من ترتيب ملفاته الداخلية، والانتقال إلى الملفات الخارجية التي يحتلّ الملف الايراني موقعاً متقدّماً فيها إلى جانب ملفات ترميم علاقات واشنطن مع حلفائها في أوروبا والتحدّي الصيني والعلاقة مع موسكو والملفات العالقة مع جميع هذه الأطراف.