لبنان يخسر كل تحويلاته الواردة منذ 1991

مدة القراءة 6 د


بحسب أرقام مصرف لبنان، سجّل ميزان المدفوعات اللبناني لغاية شهر أيلول عجزاً بقيمة 9.6 مليار دولار. علماً أنّ هذا الميزان بالتحديد يمثّل صافي التحويلات والتبادلات الماليّة بين لبنان والخارج. الصادم في هذه الأرقام، هو أنّ البلاد سجّلت في تسعة أشهر فقط عجزاً قياسيّاً لم تسجّله خلال أيّ عام كامل منذ الاستقلال وحتّى اليوم، وهو ما يمثّل تطوّراً مقلقاً من ناحية تداعيات الانهيار المالي الحاصل في البلاد. مع العلم أنّ السنوات الماضية سجّلت عجوزات مرتفعة في ميزان المدفوعات، وهو ما مثّل في البداية أولى مؤشّرات الأزمة الماليّة. لكن هذه العجوزات لم تصل إلى المستوى الذي وصل إليه عجز هذه السنة.

أمّا ما هو مخيف فعلاً، فهو أنّ جميع الفوائض التي كان يسجّلها ميزان المدفوعات طوال السنوات الممتدّة بين 1991 و2011 نتيجة الاستثمارات الخارجيّة وتحويلات المغتربين قد طارت عمليّاً، وكأنّها لم تكن، بسبب عجوزات ميزان المدفواعات المتتالية التي بدأت البلاد بتسجيلها منذ أن دخلت البلد في أزمتها الماليّة، بما فيها العجز التاريخي الذي تمّ تسجيله في الأشهر التسعة الأولى من هذه السنة. بمعنى آخر، أصبح مجموع ما خرج من البلاد من سيولة خلال الأزمة يوازي كلّ التحويلات التي وردت إلى لبنان منذ التسعينات وحتى اليوم. مع العلم أنّ التحويلات التي خرجت من لبنان خلال الأشهر التسعة الأولى من هذا العام فقط وحدها توازي ثلث ما راكمه لبنان من فوائض التحويلات منذ نهاية الحرب الأهليّة، فيما توازي التحويلات التي خرجت منذ بداية العام الماضي نصف هذه الفوائض.

جميع الفوائض التي كان يسجّلها ميزان المدفوعات طوال السنوات الممتدّة بين 1991 و2011 نتيجة الاستثمارات الخارجيّة وتحويلات المغتربين قد طارت عمليّاً

البحث في أرقام ميزان المدفوعات يمثّل اليوم ضرورة بديهيّة، ليس لمجرّد فهم عمق الأزمة الحاليّة، بل لفهم أسبابها وجذورها. فبين عامي 1991 و2011، استفاد النظام المصرفي اللبناني من فوائض ميزان المدفوعات الناتج عن التحويلات الخارجيّة الواردة الضخمة، التي تجاوزت خلال هذه المدّة حدود 28.59 مليار دولار. وعمليّاً، مثّل الاغتراب اللبناني واستثمارات الأجانب مصدراً أساسياً من مصادر هذه الدولارات، فيما مثّلت الأزمة الماليّة العالميّة التي حصلت سنة 2008 قوّة دفع إضافيّة لهذه التحويلات، خصوصاً بعد أن بادرت المصارف الأوروبيّة والأميركيّة إلى خفض فوائدها إلى مستويات قياسيّة بلغت مستويات سلبيّة في بعض الأحيان، في مقابل الفوائد المرتفعة التي كان يمنحها النظام المصرفي اللبناني. مع العلم أنّ حجم التحويلات التي وردت في سنتي 2009 و2010 بعد الأزمة الماليّة مباشرة تجاوز 11.2 مليار دولار، أي ما يوازي وحده 40% من إجمالي التحويلات الماليّة التي وردت إلى لبنان بعد الحرب.

هذه التحويلات الضخمة، غذّت النظام المصرفي ورفدته طوال تلك السنوات بالدولارات التي صبّ معظمها في نهاية المطاف في توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان وفي سندات الدين الأجنبيّة، فيما صبّ جزء أصغر من تلك التحويلات في التسليفات الممنوحة للقطاع الخاص. مع العلم أنّ البلاد لم تعرف طوال السنوات العشرين الممتدة بين 1990 و2011 سوى ثلاثة أعوام شهدت عجوزات صغيرة في ميزان المدفوعات، فيما واظب هذا الميزان على تسجيل الفوائض الكبيرة في السنوات الباقية.

لكنّ ما لا يعرفه كثيرون، هو أنّ الأزمة التي انفجرت في تشرين الأوّل من العام الماضي، كانت قد بدأت فعليّاً بإرسال أولى مؤشّراتها منذ عام 2011، دون أن ينال ذلك الكثير من النقاش أمام الرأي العام. ففي ذلك العام، ومع بدء الثورة السوريّة وما رافقها من استقطاب سياسي على المستوى الإقليمي، ومع استقالة “الثلث المعطّل” في حكومة الحريري وما تلاه من تغيير في توازنات السلطة السياسيّة في البلاد، وتحديداً من جهة نفوذ المعسكر المناوىء لدول الخليج في السلطة، بدأت البلاد تخسر شيئاً فشيئاً هذه القدرة على إستقطاب التحويلات. وفي الوقت نفسه، ساعد على هذا الأمر عودة الفوائد إلى الارتفاع في الدول الغربيّة، بعد انتهاء مفاعيل الأزمة الماليّة العالميّة، مع ما رافق هذه المرحلة من تدفّق للسيولة باتجاه المصارف الأوروبيّة والأميركيّة.

ومنذ 2011، بدأت البلاد تسجّل العجوزات المتتالية في ميزان المدفوعات في جميع السنوات، باستثناء سنة 2016 التي شهدت الهندسات الماليّة المعروفة. وخلال هذه السنوات، كان مصرف لبنان يواظب على التمسّك بمبدأ تثبيت سعر الصرف، منفقاً بذلك من احتياطاته المتأتية من الودائع بالعملات الصعبة، لتوفير السيولة اللازمة محليّاً للاستيراد وتمويل شتّى أنواع التحويلات إلى الخارج. ومع تنامي إنفاق مصرف لبنان على دعم سعر الصرف من احتياطاته، كانت تتراكم طوال تلك السنوات الخسائر التي يتم الحديث عنها اليوم في ميزانيّات المصرف المركزي، والتي تمثّل تحديداً الفارق بين حجم الدولارات المتبقّية في موجودات مصرف لبنان وحجم الدولارات التي يدين بها للمصارف.

الأزمة التي انفجرت في تشرين الأوّل من العام الماضي، كانت قد بدأت فعليّاً بإرسال أولى مؤشّراتها منذ عام 2011، دون أن ينال ذلك الكثير من النقاش أمام الرأي العام

في تلك السنوات، بدأ ميزان المدفوعات بتسجيل أرقام عجوزات بسيطة قابلة للهضم، أي بحدود 1.99 مليار دولار في 2011 و1.5 مليار دولار 2012، وظلّت هذه العجوزات ترتفع إلى أن بدأت بتسجيل مستويات قياسيّة بلغت 4.8 مليار دولار سنة 2018 و5.85 مليار دولار سنة 2019، وصولاً إلى تسجيل العجز الحالي القياسي بقيمة 9.6 مليار دولار في الأشهر الثمانية الأولى من هذه السنة. وفي محصّلة سنوات الأزمة، طارت عمليّاً كلّ الفوائض التي جرى تسجيلها في السنوات السابقة، أي في السنوات التي تلك الحرب الأهلية.

إقرأ أيضاً: اختفاء ثلثي اقتصاد لبنان: عدنا 26 سنة إلى الوراء

وهكذا، ومن زاوية مراجعة هذا المؤشّر وتطوّره على مدى السنوات الماضية، يمكن استنتاج أنّ الأزمة الماليّة، وإن انفجرت على حين غرّة في تشرين الأوّل من العام الماضي، لكنّ بذروها كانت تتراكم على مدى ثمانية سنوات سابقة، وتحديداً في السنوات الممتدّة بين 2011 و2019. أمّا الأهم اليوم، فهو أنّ عجز ميزان المدفوعات المتنامي مجرّد دلالة إلى حجم الضغوط التي يتعرّض الاقتصاد اللبناني، من خلال حجم الدولارات التي تخرج من البلاد، مع كلّ ما يعنيه ذلك من تراجع في حجم السيولة المتوفّر بالعملة الصعبة، وما سيتركه ذلك من آثار على سعر الصرف.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…