معتقلات الخبز

مدة القراءة 3 د


 بعدما جرَّب السوريون شتَّى أنواع المعتقلات وأشكالها، ها هم يُجرّبون اليوم نوعاً جديداً وشكلاً جديداً: معتقلات الخبز!

كلُّ منشأة في “سوريا الأسد” هي كناية عن مشروعٍ ما لمعتقلٍ ما.

في مطلع الثورة تمَّ إلغاء مباريات كرة القدم لأن أجهزة المخابرات حوَّلت الملاعب إلى معتقلات جماعية. وحتى بعض صالات الرياضة، وبعض صالات الأفراح، تمَّ تحويلها إلى معتقلات.

الصورة أعلاه، للوهلة الأولى يظنّ الناظرُ إليها بأنها تنتمي إلى مجموعة صور “داعش”، حيث الأقفاص التي يُوضع فيها الناس قبل أن يتمّ إحراقهم بالنار أو إغراقهم في نهر الفرات كما سبق للتنظيم أن فعل بخصومه ومخالفيه.

ولكن ما إن نقرأ الكلام المرافق للصورة حتّى نعرف بأنّها أقفاص وُضِعَتْ أمام بعض الأفران في دمشق بحجَّة تنظيم الدور!!

هذه الصورة لم ينشرها الإعلام المناهض لنظام الأسد، بل نشرتها وسيلةٌ إعلاميةٌ تتبع النظام نفسه! لا بغرض النقد والاستنكار، بل بغرض معرفة رأي الجمهور بما أسمته “الطريقة الجديدة لتنظيم الدور أمام الأفران”!! حيث نشرت إذاعة “المدينة أف أم” على صفحتها صوراً لتلك الأقفاص البشرية أمام أفران “ابن العميد” في دمشق، مروِّجةً لهذه “الطريقة الجديدة”، وطالبةً من متابعيها إبداء رأيهم فيها: “كيف تصف هذه الطريقة؟ وهل سبق لك أن جرَّبتها؟”!!

الصورة أعلاه، للوهلة الأولى يظنّ الناظرُ إليها بأنها تنتمي إلى مجموعة صور “داعش”، حيث الأقفاص التي يُوضع فيها الناس قبل أن يتمّ إحراقهم بالنار أو إغراقهم في نهر الفرات كما سبق للتنظيم أن فعل بخصومه ومخالفيه

أمَّا التبرير الرسمي لكلّ هذا الاحتقار لكرامة الإنسان السوري، فقد جاء على لسان مدير مخابز دمشق، نائل اسمندر، الذي قال إنّها “طريقة جديدة لتنظيم الدور (…) لأنّ ثقافة الدور غير موجودة في بلادنا”!!

نظام الأسد لا يجد أنّ المشكلة تكمن في فقدان مادَّة الخبز، بل يجدها في فقدان “ثقافة الدور”!! جوع الناس ليس المشكلة بالنسبة إليه، بل عدم انضباطهم!!

لقد تحوَّل السوريون المقيمون في مناطق سيطرة الأسد إلى شعبٍ من الطوابير؛ أمام الأفران وأمام محطات الوقود وأمام المؤسَّسات الاستهلاكية… ولو بقيَ سفارات أجنبية في سوريا، لكانت قد شهدت أطول تلك الطوابير على الإطلاق.

سياسة إهانة الإنسان في كرامته (حتّى كرامته المعيشية البسيطة) تمَّ اجتيازها نحو سياسة التفنُّن في صنع الإهانة. فالمواطن الـمُهان لم يعد مرغوباً فيه ما دامت الإمكانية موجودة لصنع المواطن الـمُهان في حدوده القصوى.

إقرأ أيضاً: أسماء الأسد رئيساً لسوريا؟

وفي مقابل المشهد الحالي لأفران المناطق التي يسيطر عليها النظام، لا بدَّ أن يتراءى لنا المشهد السابق لأفران مناطق الثورة. فمن يبحث في أرشيف سنة 2012، وحدها، سيجد بأنه قد قضى خلالها أكثر من ثلاثمئة شخص، إضافة إلى أكثر من ألف جريح، جراء قصف طائرات الأسد لتجمُّعات الناس أمام الأفران.

ما يزيد عن ثلاثين استهدافاً للأفران في ذلك العام (فرن حلفايا وفرن تلبيسة وفرن البصيرة وفرن الحميدية وفرن حي عشيرة… إلخ)، خلَّف مجازرَ ومناظرَ رهيبةً لأشلاء الناس، وقد صَبَغت أرغفةَ خبزهم بالدماء.

وهكذا حتى ليبدوَ بأنَّ الفرن السوري لم يعد قادراً على إنتاج سوى نوعَيْن من الخبز: خبز مغمَّس بالدم خارج مناطق سيطرة الأسد، وخبز مغمَّس بالذلّ داخل مناطق سيطرته.

 

مواضيع ذات صلة

3 عبارات قالها لاريجاني ولم تُنشر!

من قال إنّه لا يمكن التعلّم من العدوّ؟ بل على العكس. أهمّ الدروس تكون غالباً مستخلصة من مراقبة العدوّ، خصوصاً بعد معركة، وبالأخصّ بعد ما…

الحزب فتح باب التّغيير: “الدّولة” و”الطّائف” بلا سلاح

يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني 2024 سيكون يوماً استثنائياً، حتّى لو لم يتمّ توقيع اتّفاق وقف إطلاق النار، لأنّ الأمين العامّ للحزب الشيخ نعيم قاسم…

7 أعمدة في قمّة الكويت الخليجيّة السّابعة

وسط أمواج مُتلاطمة وتحدّيات ضخمة آنيّة ومستقبلية تواجه المنطقة، تنعقد القمّة الخامسة والأربعون لقادة دول مجلس التعاون الخليجي بالكويت في أول أيام شهر كانون الثاني…

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….