تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني ومواقفه الأخيرة حول مسألة “الصلح” والحرب، واستحضاره وقائع تاريخية من الموروث الإسلامي في عهد الرسول وأئمة المذهب الشيعي، نقلت الأزمة من معسكر السلطة التنفيذية والجهود التي بذلتها وتبذلها من أجل إخراج إيران من الأزمات التي تواجهها داخلياً ودولياً، إلى داخل معسكر النظام والتيار المحافظ الذي وجد نفسه أمام تحدّيات الحقائق التي تحدّث عنها الرئيس، ومستقبل إيران ما بعد انتخابات 2021 الرئاسية.
وكان لافتاً الهجوم العنيف الذي شنّه رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني المحافظ نائب مدينة قم، مجتبى ذو النوري، على روحاني، حين قال في تغريدة مخاطبا الرئيس: “إذا كان الهدف من الاستشهاد بالأسباب التي أدّت للصلح بين الإمام الحسن ومعاوية للقول بأنّ مطلب غالبية الشعب هو السلام والصلح لتسويغ التفاوض مع العدو، فإنّ غالبية الشعب الإيراني لن يقبل بأقل من عزلك ومعاقبتك، وبناء على منطقك، فإن على قائد الثورة أن يصدر أوامره لإعدامكَ ألف مرّة حتّى ترضى قلوب الشعب العزيز”.
إقرأ أيضاً: الرئاسة الإيرانية: ترشيح امرأة ينقذ النظام؟
بداية، قد يشكّل تصريح ذو النوري إحراجاً للنظام الذي تمسك على مدى العقود الماضية ما بعد عام 1988، برفض أيّ دعوة لإجراء استفتاء شعبي حول أيّ من الأمور السياسية والاجتماعية وحتى العلاقات الدولية. والتلويح من قبل روحاني بالعودة إلى رأي الشارع الشعبي فيما يتعلّق بالعملية التفاوضية مع الإدارة الأميركية تحت سقف الاستراتيجية والأسس التي يتمسك بها النظام ليست جديدة. فقد سبق أن طرحها روحاني أمام المواقف التصعيدية لقيادة النظام التي أدّت إلى إفشال كلّ الوساطات الدولية لفتح كوة في مواقف كلا الطرفين الإيراني والأميركي، من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وإلى رئيس وزراء اليابان السابق تشينزو آبي وغيرهما. وقد تولّى المرشد الأعلى للنظام مهمة كبح هذا التوجّه الذي رأت فيه إدارة روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف مخرجاً لإعادة الأمور في الاتفاق النووي ومفاعيله إلى نصابها الذي قامت عليه منذ عام 2015 مع بعض التعديلات التي لا تمسّ جوهر الموقف الإيراني داخلياً وإقليمياً. إلا أنّ المختلف هذه المرة أنّ الهجوم على روحاني في الأشهر الثمانية الأخيرة من رئاسته لم يصدر أو يأتي من المرشد الأعلى، بل تركت ساحة المواجهة لجهات توازي السلطة التنفيذية أو هي في مكانة أقلّ منها، لكنها تعبّر بوضوح عما يدور من جدل داخل المعسكر المحافظ وقيادته. كأن يتولّى البرلمان تارة مهمة التصدّي لروحاني وكبح اندفاعته من خلال التلويح بالاستجواب وحجب الثقة عنه، وتارة بترك شخصيات من هذا المعسكر القيام بمهمة كسر كلّ ما تبقّى من حرمة في العلاقة مع رئيس الجمهورية، والمساعي التي يبذلها من أجل إنجاح فترته الرئاسية بأقلّ خسائر ممكنة، أو بالحدّ الأدنى من الإنجازات.
ذهب رئيس تحرير صحيفة “جمهوري إسلامي” الناطقة باسم الحزب الجمهوري، مسيح مهاجري، الذي سبق أن ترأسه في عقد الثمانينيات المرشد الأعلى الحالي، إلى طرح جدلية الجهة التي تملك بيدها القرار، مشكّكاً بمدى النفوذ الذي يمتلكه المرشد على المعسكر الذي يرعاه ويعتبره رافعة للنظام والسلطة
كلام ذو النوري عن “الرأي العام الشعبي” شكّل نقطة انطلاق لبعض الشخصيات البارزة في المعسكر الإصلاحي والمعتدل، لاستغلال هذا اللجوء إلى الشعب لإحراج جماعة النظام في المجال الذي يشكّل تحدّياً جوهرياً لهم. لكن من دون الذهاب إلى طرح مسألة الاستفتاء بشكل مباشر، لأن مجرّد موافقة المرشد الأعلى الذي يملك حصرياً حقّ الموافقة على مثل هذه الدعوة دستورياً، على إجراء أيّ استفتاء حتى حول شعبية الرئيس والموقف منه ومن توجّهاته وسياساته، سيفتح الطريق أمام هذه الآلية الدستورية لتطال العديد من المسائل ليس أقلها صلاحيات المرشد الأعلى، وطبيعة النظام وتوجّهاته الداخلية والخارجية.
من هنا، فإن موقف معاون وزير الداخلية الأسبق في عهد الرئيس محمد خاتمي، مصطفى تاج زاده، الذي كان يعتبر أحد رموز الإصلاحيين ممن طالبوا باستفتاء حول ماهية النظام والسلطة، وضع مسألة “رأي الغالبية الساحقة للشعب”، التي بنى ذو النوري حكمه وموقفه عليها، مقابل طرح سؤال يحمل الكثير من التأويلات بالقول: “هل توافقون أن نسأل الشعب عن أيّ شيء وبأيّ الأشياء يرضى؟”. في حين ذهب رئيس تحرير صحيفة “جمهوري إسلامي” الناطقة باسم الحزب الجمهوري، مسيح مهاجري، الذي سبق أن ترأسه في عقد الثمانينيات المرشد الأعلى الحالي، إلى طرح جدلية الجهة التي تملك بيدها القرار، مشكّكاً بمدى النفوذ الذي يمتلكه المرشد على المعسكر الذي يرعاه ويعتبره رافعة للنظام والسلطة. وقد توقّف عند اللغة التي استخدمها ذو النوري، حين حدّد واجبات المرشد بوجوب إصدار حكم الإعدام بالرئيس روحاني بعد أن حكم عليه هو بذلك، أي تحويل موقع المرشد إلى نوع من سلطة لتنفيذ نيات وسياسات هذه الجماعة، وتفريغ دوره الدستوري كحَكَم بين السلطات الثلاث من مضمونه. وهو مؤشّر يحمل الكثير من الدلالات حول مستقبل الصراع على السلطة، وموقع المرشد الأعلى في هرمية النظام. وهو موقف يكشف عن وجود نيات لدى المعسكر المحافظ بالتأسيس لإدخال تعديلات في التوصيف الوظيفي للسلطات الثلاث الرئيسة في هرمية النظام، والانتقال إلى الحكم البرلماني بصلاحيات موسّعة رقابية وتنفيذية تلغي دور النظام الرئاسي، ودور السلطة القضائية الجهة المخوّلة دستوراً وقانوناً في إصدار “حكم الإعدام”. وفي حالة رئيس الجمهورية، فإنها لا تكون مطلقة الصلاحية لما لمثل هذا القرار من تداعيات وأبعاد أمنية واستراتيجية على النظام واستقراره داخلياً وخارجياً، حتّى ولو كان الحكم في دائرة “الإعدام السياسي والاجتماعي” وليس الجسدي، خاصة وأنّ المرشد الأعلى رفض سابقاً مشروعاً تقدّم به عدد من النواب المتطرّفين لاستجواب الرئيس والتمهيد لعزله، إلا أنّ المرشد حينها وقف بوجهه، وأكد أنّ على الحكومة الاستمرار بالعمل حتّى آخر يوم لها.
هذا المعسكر لن يتردّد في العمل على تصحيح سياساته الخارجية بما فيها التفاوض مع واشنطن وإعادة إحياء الاتفاق النووي وبشروط جديدة
يبدو أنّ روحاني من خلال استحضاره للحدث التاريخي والدعوة للاختيار بين الصلح والسلم عندما تكون الفرصة سانحة لذلك، أو الحرب في زمن القدرة عليها، وعدم الذهاب إلى الحرب في لحظة السلم أو العكس، قد رمى الكرة في ملعب المعسكر المحافظ، وفضح ما يدور من مساعٍ في الخفاء داخل المعسكر المخافظ لتمهيد الطريق أمام الرئيس المقبل للقيام بالخطوة الحاسمة باتجاه فتح باب التفاوض الجديد، انطلاقاً من قناعة لدى هذا المعسكر بأنه الفائز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي تضعه في موقع المسيطر على كلّ مفاصل القرار.
لذا، لن يكون محرجاً في الذهاب إلى الخيارات التي سبق أن منع روحاني من تحقيقها، على اعتبار أنها تشكّل خشبة الخلاص للنظام من كلّ أزماته الداخلية والخارجية. من هنا، فإنّ هذا المعسكر لن يتردّد في العمل على تصحيح سياساته الخارجية بما فيها التفاوض مع واشنطن وإعادة إحياء الاتفاق النووي وبشروط جديدة، وموافقته التوقيع على معاهدة FATF التي سدّت الكثير من منافذ المعالجات الاقتصادية أمام حكومة روحاني، وأفرغت جهوده لتخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية من مضمونها.