أزمة الدولار أكبر من “طبطبة” فرنسا

مدة القراءة 4 د


ماذا تغير في بيروت ليتراجع الدولار إلى حافة الستة آلاف ليرة؟ لا شيء، على المستوى الاقتصادي، سوى مانشيتات الصحف.

حين بدأ تقهقر سعر صرف العملة الوطنية في 2019، كان سعد الحريري على رأس الحكومة، وكانت مفاعيل التسوية الرئاسية لا تزال قائمة، ولو على هُونٍ، حتى جاءت الأزمة فدَسّتها في التراب.

إقرأ أيضاً: خواتيم هدوء الدولار: عاصفة بعد “اختفاء” 7 مليارات من مصرف لبنان

انهارت الليرة لسبب “أساسي” (fundamental) هو العجز في ميزان المدفوعات، وتراكمه إلى حدٍ لم يعد مصرف لبنان قادرا على رتقه من الاحتياطات وبالهندسات المالية.

لدى لبنان عجز شهري في الميزان التجاري يقارب معدله 600 مليون دولار منذ بداية العام، وما يرِدُ من تدفقات من تحويلات المغتربين وإنفاقهم صيفا، لم يعد يكفي لتعويض أكثر من 150 إلى 200 مليون دولار من هذا العجز

الشرح يطول في مكونات هذا العجز ومسبباته، وليس المجال له هنا، بل المجال الآن لفهم ما الذي بإمكانه أن يوقف ارتفاع الدولار، أو ما الذي يجعل من هبوط اليومين الماضيين، حقيقة، لا وهماً أو ألعاب مضاربين؟

توازن سعر الصرف يحتاج نظريا إلى تصفير العجز في ميزان المدفوعات، أي أن تتساوى تدفقات النقد الأجنبي الواردة بالتدفقات الخارجة. وهذا لن يتحقق بمجرد تكليف الحريري بتشكيل الحكومة.

لدى لبنان عجز شهري في الميزان التجاري يقارب معدله 600 مليون دولار منذ بداية العام، وما يرِدُ من تدفقات من تحويلات المغتربين وإنفاقهم صيفا، لم يعد يكفي لتعويض أكثر من 150 إلى 200 مليون دولار من هذا العجز.

هذه فجوة لا يمكن جسرها بأجواء نفسية تفعلها أو تفتعلها تصريحات السياسيين ومانشيتات الصحف، لتدفع الناس لبيع ما لديهم من دولارات. هناك مدخل واحد إلى الحل لا ثاني له، هو التوصل إلى اتفاق على برنامج مع صندوق النقد الدولي لتمويل عجز الميزان الجاري، لا أكثر ولا أقل.

يقوم تفاؤل المتفائلين بانخفاض الدولار على جملة افتراضات تستبق الأحداث؛ أولها أن تؤلف الحكومة سريعا، وثانيها أن تسير الحكومة بإصلاحات الورقة الفرنسية بلا اعتراض أو تعطيل، وثالثها أن يقر مجلس النواب الإصلاحات وما فيها من ضرائب إضافية في ليلة أو ضحاها، ورابعها أن تتوصل الحكومة إلى اتفاق سريع مع صندوق النقد الدولي، وخامسها أن يصرف الصندوق الأموال سريعا، وسادسها أن تمر كل “الإصلاحات” المؤلمة من دون 17 تشرين أخرى.

الأزمة أكبر من رغبة فرنسا وإمكاناتها وقدرتها على المساعدة، حتى ولو جندت أقصى إمكاناتها وإمكانات المؤسسات الأوروبية، مثل البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير وبنك الاستثمار الأوروبي. لا مفر هذه المرة من الاتفاق مع الأميركيين، لتفتح أقفال صندوق النقد الدولي، ولا بد من اتفاق مع العرب

سعر الدولار في بيروت صبيحة الأمس يعكس يقينا بحدوث كل ذلك، بقدر ما يعكس عدم اليقين والإرباك لدى الناس الذين يهيمون في كل اتجاه خائفين من هبوط الدولار كما من ارتفاعه. أضف إلى ذلك عبث الصرافين الذين ينتهزون الفرصة ليشتروا الدولار كثيرا ويبيعوه قليلا.

من مفارقات التاريخ أنه قبل عشرين عاما بالتمام والكمال، عاد الشهيد رفيق الحريري إلى الحكم بعد أن ظل لسنتين في المعارضة، (تم التكليف في 23 تشرين الأول عام 2000، وتشكلت الحكومة في 26 منه). كانت البلاد حينها على شفير أزمة مالية واقتصادية، وكانت فرنسا، لا سواها، تعد بالتحضير لمؤتمر دولي لمساعدة لبنان.

بعد أشهر قليلة من ذلك الحين، عقد مؤتمر باريس-1 في شباط 2001، وذهب الحريري الأب حاملا بيده سلة إصلاحات أقرت تحت ضغط الشروط الدولية، منها قانون مكافحة غسيل الأموال وقانون تملك الأجانب وإصلاح الجمارك وغيرها. تمكنت فرنسا حينها من توفير هبات وقروض بقيمة 500 مليون يورو، ريثما يكتمل برنامج الإصلاح ويعرض على المؤتمر التالي “باريس-2”.

الفارق هذه المرة أن الأزمة أكبر من رغبة فرنسا وإمكاناتها وقدرتها على المساعدة، حتى ولو جندت أقصى إمكاناتها وإمكانات المؤسسات الأوروبية، مثل البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير وبنك الاستثمار الأوروبي. لا مفر هذه المرة من الاتفاق مع الأميركيين، لتفتح أقفال صندوق النقد الدولي، ولا بد من اتفاق مع العرب.

الأجواء توحي بأن إيران ترغب في الصفقات الجزئية، من حكومة الكاظمي في العراق، إلى تبادل الأسرى في اليمن، وصولا إلى مفاوضات ترسيم الحدود في لبنان. لكن أوان الصفقة الكبرى لم يحن بعد، ولا يمكن أن يحين قبل دخول جو بايدن (المرجح) إلى البيت الأبيض.

مشكلة لبنان “بالبنط العريض” أن أزمته أكبر من “طبطبة” فرنسا، وأكبر من أن تحلها صفقة جزئية.

مواضيع ذات صلة

الاقتصاد السّياسيّ لإعادة الإعمار: سقوط معادلة 2006

عندما سئل رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة عام 2007 عن حجم المساعدات الإيرانية لإعادة الإعمار بعد حرب تموز 2006، كان جوابه بأنّه لا يعلم. والواقع…

لنعالج الفقر… “سرطان العالم”

وفق البنك الدولي، ما يقارب 80% من سكّان لبنان يعيشون تحت خطّ الفقر! معركتنا ضدّ الفقر وتداعياته هي المعركة الوحيدة الجامعة لكلّ مكوّنات المجتمع اللبناني….

جردة مالية لـ2024: استقرار نقدي… وفشل سياسي – اقتصادي

عام 2024 شهد لبنان استمراراً في تعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية بشكل يعكس أزمة هيكلية متعدّدة الأوجه. كان الفراغ الرئاسي والجمود السياسي مظاهر واضحة لعجز النخب…

فائدة الـ 45% على الودائع: للتّحكّم باللّيرة حدود

بدأت بعض البنوك باستقبال الودائع بالليرة اللبنانية بفوائد تصل حتى 45% لأجل سنة. ليست هذه الخطوة خارجة عن المألوف في البلدان الناشئة، لكنّها تشير في…