منذ تولّي رجب طيّب أردوغان زمام السّلطة في تركيا، كان اعتماده الأولي على سياسة “صفر مشاكل” مع الجيران والمحيط العربي والأوروبي. فموقع تركيا الاستراتيجي الذي يصل آسيا بأوروبا، ويحيط بها عدد من البلاد الإقليمية الفاعلة في السياسة العالمية والشرق الأوسط، كان يدفع أردوغان، عبر سياسة وزير خارجيته الأسبق أحمد داوود أوغلو، إلى تجنّب المشاكل، بل ولعب دور الوسيط والمُصلح في المنطقة. إلّا أنّ النزعة “العثمانية الجديدة” للرئيس التركي حوّلته من سياسة “صفر مشاكل” إلى سياسة “صفر أصدقاء”. هؤلاء الذين كان في مُقدّمتهم داوود أوغلو شخصيًا، ومعه اثنان من صقور حزب العدالة والتنمية سابقًا علي باباجان والرئيس السابق عبدالله غول.
إقرأ أيضاً: تركيا وإيران.. البلدان العدوّان الصديقان!
سوريا: من وسيط لإسرائيل إلى سفربرلك…
أولى مشاكل أردوغان في المنطقة كانت مع النظام السوري. إذ شهدت علاقة بشار الأسد – أردوغان قبل عام 2011 تناغمًا وزيارات متبادلة واتفاقيات وصلت إلى حدّ توسّط الرئيس التركي، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء حينها، بين دمشق وتل أبيب في فترة 2007 – 2008، لإبرام اتفاق سلام ومحاولة جمع الأسد ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت على طاولة واحدة في أنقرة. بالإضافة إلى محاولته مصالحة نظام البعث مع ألدّ أعدائه التاريخيين “تنظيم الإخوان – فرع سوريا” بمباركة إيرانية. إلا أنّ اندلاع الثورة السورية حوّل الغرام إلى انتقام بين الجارين، لتتطوّر الأحداث في سوريا، ويتدخّل الجيش التركي مع “ميليشيات” جمعها من فصائل سورية مختلفة، ضمن محاولة لإعادة إحياء جيش “الإنكشارية العثماني”، بوجه “سفر برلكي”، وبلباس جديد يُشبه تجربة الحرس الثوري الإيراني في الشرق الأوسط.
في القارة السمراء، لم تكن ليبيا محطة أردوغان الوحيدة. بل كان للسودان أهميّة خاصة في أطماع الرئيس التركي في الدول العربية، ترجمها أثناء حكم الرئيس المعزول عمر البشير الذي منحه “جزيرة سواكن” الاستراتيجية بعقد لمدة “99 عاماً” على البحر الأحمر، والمقابلة لميناء جدة في المملكة العربية السعودية
التدخّل التركي في سوريا كان مبنيًا على حجج متعدّدة تتلخّص كالآتي:
1- في البداية تحجّج الأتراك بنقل “ضريح سليمان شاه” جدّ مؤسس السلطنة العثمانية عثمان الأول إلى مسافة 180 مترًا عن الحدود التركية مع سوريا.
2- الحملة التي شنّها الجيش التركي على مدينة “الباب” بريف حلب بحجّة محاربة تنظيم داعش.
3- استخدام حجّة المقاتلين الأكراد، للتدخل في عفرين وجرابلس وشرق الفرات.
4- التدخل في محافظة إدلب بحجة تنفيذ ما اتفق عليه مع الروس والإيرانيين بتثبيت نقاط مراقبة لمناطق خفض التصعيد، وبحجّة قتال جبهة النصرة التي لم يقاتلها أساسًا، لتتحوّل محافظة إدلب إلى نقطة لنقل المقاتلين السوريين، ممن حوّلهم أردوغان إلى مقاتلين مأجورين يطوف بهم البلاد باعتماد سياسة العصا والجزرة، حالهم كحال “الجيش الانكشاري”، أو الجيش الذي جمعه في “سفر برلك”. فمنحهم رواتب تتراوح بين 800 و1500 دولار أميركي، ووعود بمنحهم الجنسية التركية، باستنساخ واضح لتجربة “سفربرلك” إبّان الحكم العثماني لسوريا ولبنان في الحرب العالمية الأولى. والفصيل الذي يرفض القتال خارج سوريا، يعاقبه الأتراك بقطع المال والتسليح وسحب الامتيازات.
ليبيا والسودان والصومال
“إنكشارية أردوغان” صاروا يده التي تنفّذ قسمًا مهمًا من سياسته الجديدة – القديمة القائمة على “صفر أصدقاء”. فحطّ بهم الرحال في غرب ليبيا لحماية حكومة فائز السرّاج بعد وصول قوات اللواء خليفة حفتر إلى أبواب العاصمة الليبية طرابلس. وكان هذا خرقاً واضحاً للأمن القومي لبعض الدول العربية، خصوصًا مصر التي أكّدت مراراً أنّها لن تسمح لميليشيات أردوغان بتجاوز خط سرت – الجفرة بأيّ طريقة، بما فيها التدخل العسكري لحماية الأمن القومي المصري. وهذا ما استدعى تدخل الولايات المتحدة لكبح جماح طموح “العثماني الجديد” وإيقاف “انكشاريته”، ورسم خط أحمر في ليبيا هو “سرت – الجفرة”.
وفي القارة السمراء، لم تكن ليبيا محطة أردوغان الوحيدة. بل كان للسودان أهميّة خاصة في أطماع الرئيس التركي في الدول العربية، ترجمها أثناء حكم الرئيس المعزول عمر البشير الذي منحه “جزيرة سواكن” الاستراتيجية بعقد لمدة “99 عاماً” على البحر الأحمر، والمقابلة لميناء جدة في المملكة العربية السعودية. واهتمام أردوغان بالجزيرة يتلخّص بالأسباب التالية:
1- الاهتمام التاريخي: كان قد سيطر عليها سابقًا السّلطان العثماني سليم الأوّل عام 1517م، وكانت قاعدة الحملات العثمانية على اليمن، قبل أن يسيطر عليها محمد علي باشا بعدما انطلق بحملته من القاهرة ضدّ الأتراك ووصل لحدود العاصمة العثمانية اسطنبول.
2- ترميم الآثار العثمانية: حجة لإنشاء قاعدة عسكرية مقابلة للسعودية ومجاورة لمصر وتحصيل موطئ قدم للتوسّع التركي في المنطقة، ومراقبة حركة الملاحة عبر البحر الأحمر.
3- إيجاد أسواق جديدة لتصريف المنتجات التركية العسكرية وغير العسكرية: خصوصًا في أفريقيا، والاستفادة من الموقع الجغرافي للجزيرة القريبة من مطار الخرطوم ومدينة بورتوسودان ومينائها.
لم يتوقف أردوغان عن تنفيذ سياسة “صفر أصدقاء”. فبعد القارة الأفريقية، قرّر الرئيس التركي نقل “فيلقه” إلى إقليم آرتساخ أو ما يُعرف بـ”ناغورني قرّه باغ” للمشاركة في القتال بين أرمينيا المدعومة من إيران وروسيا وأذربيجان التي تلقى الدّعم منه
أمّا في الصومال، التي سارع أردوغان إليها بدعم من قطر التي تضمّ قاعدة عسكرية تركية هي الأخرى، فيُشيّد قاعدة عسكرية هي الأكبر لبلاده خارج حدودها. والحجة هي تدريب القوات الحكومية الصومالية. إلا أنّ قراءة التواجد ببساطة متناهية والنظر إلى موقع الصّومال، تكشف المخطط التركي في توسيع نفوذه بالقارة السمراء وخصوصًا في منطقة القرن الأفريقي المطل على خليج عدن والمحيط الهندي.
القوقاز: استرضاء روسيا وتوبيخ أميركي
لم يتوقف أردوغان عن تنفيذ سياسة “صفر أصدقاء”. فبعد القارة الأفريقية، قرّر الرئيس التركي نقل “فيلقه” إلى إقليم آرتساخ أو ما يُعرف بـ”ناغورني قرّه باغ” للمشاركة في القتال بين أرمينيا المدعومة من إيران وروسيا وأذربيجان التي تلقى الدّعم منه، حيث سارع لدعم الأذريين ضد الأرمن لأسباب عديدة:
1- الحفاظ على خط الغاز الأذربيجاني الذي يصل إلى تركيا ومنها للسوق الأوروبية.
2- استغلال الحقد التاريخي بين الأتراك والأرمن وبين الآذريين وجيرانهم، فيظهر في الداخل التركي كبطل قومي تركي يدافع عن العرق التركي أينما وُجِدَ، وذلك بعد ارتفاع الانتقادات لأردوغان من قبل القوميين الأتراك على خلفية حملات التجنيس العشوائية التي يمنحها لغير الأتراك، وفي مقدمتهم السّوريين.
3- استعراض الصناعة العسكرية التركية، وفي مقدمتها الطائرة المُسيّرة “بيرقدار”، التي تعرّضت لنكسة في معارك إدلب بعد إسقاط النظام السّوري وحزب الله عدداً لا بأس به منها. وهي الطائرة التي يعتبرها أردوغان فخر صناعته العسكرية.
لا بدّ من الاعتراف أنّ التحالف اليوناني – الإسرائيلي – المصري … يحرم تركيا من الشراكة النفطية في المتوسط فضلاً عن التحالف العراقي – المصري – الأردني. بحيث لا يبقى لتركيا غير الممر للغاز الروسي وربما غيرها من دول المعسكر الاشتراكي السابق
هكذا توتّرت علاقته مع روسيا التي يختلف معها بصفته أحد “الأطراف الضامنة لاتفاق أستانة” في سوريا، إلا أنّه سرعان ما حاول استرضائها بتجربة منظومة صواريخS-400 الروسية للدفاع الجوي. إلا أنّ استرضاء موسكو بتجربة المنظومة المحظورة عليه أميركيًا جلب لأردوغان “توبيخًا من واشنطن” وصل إلى حدّ التلويح بنقل قاعدة “أنجرليك” الأميركية التي تضمّ رؤوسًا نووية إلى اليونان. يُذكر أنّ العلاقة بين أنقرة وواشنطن شهدت توتراً وصل إلى فرض الإدارة الأميركية عقوباتٍ على مسؤولين أتراك في قضية “القس أندرو برنسون”، انتهت بخضوع “السّلطان” الجديد للضغوط الأميركية والإفراج عن المواطن الأميركي.
البحر المتوسط وعقوبات أوروبا
اليونان، الخصم التاريخي لتركيا، أعاد أردوغان التحرّش بها هي الأخرى بسبب أطماعه النفطية في البحر المتوسّط، ومعها قبرص، المشكلة التاريخية بين البلدين، وإلى جانبهما فرنسا والاتحاد الأوروبي الذي يتجه لفرض عقوبات على تركيا في حال استمرّ أردوغان بسياسته التي يعتبرونها استفزازية في البحر المتوسط، وهذا أيضًا كان موضع استنكار من الخارجية الأميركية.
لا بدّ من الاعتراف أنّ التحالف اليوناني – الإسرائيلي – المصري … يحرم تركيا من الشراكة النفطية في المتوسط فضلاً عن التحالف العراقي – المصري – الأردني. بحيث لا يبقى لتركيا غير الممر للغاز الروسي وربما غيرها من دول المعسكر الاشتراكي السابق.
في الخلاصة، خاصم أردوغان جيرانه كلّهم، ما عدا إيران التي تجمعه بها مصالح “اعتدائية” في الدول العربية، وأخرى تجارية بمليارات الدولارات. وهي التي أرسلت قوات من جيشها إلى حدود تركيا يوم محاولة الإنقلاب الذي أدّى في نهاية المطاف إلى إقصاء جماعة صديق أردوغان السابق وأستاذه فتح الله غولن، من الجيش والقضاء والتربية ودوائر الدولة التركية، ليثبّت بذلك حكمه وقبضته على الدّولة بشكل كامل.