استعدوا أيها اللبنانيون: فتسديد بوالص التأمين سيصبح بنسبة 50 % بالدولار الأميركي و50 % بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف 4000 ليرة لبنانية.
كيف اتُّخذ القرار؟
إنه ببساطة، وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال راوول نعمة. خلال اجتماع ضمّه وجمعية شركات الضمان “ACAL” يوم الثلثاء الماضي، عرض ممثّلو الشركات شكواهم من نيّة بعض المستشفيات الخاصة استيفاء الفواتير العلاجية على أساس سعر صرف 4000 ليرة، في وقت تُثار تخوّفات من رفع الدعم عن المستلزمات الطبية مع ما يعنيه هذا الواقع المستجدّ من إجبارهم على تأمين الدولارات النقدية لتغطية تكاليف العمليات الجراحية…
إقرأ أيضاً: التأمين الإلزامي مغارة سَلبَطة مناطقيّة؟
إلا أنّ الوزير نعمة، وبدلاً من العمل لإيجاد طريقة بالتعاون مع وزير الصحة لِلَجم المستشفيات الخاصة قام بإعطاء الضوء الأخضر للشركات بالتسعيرة الجديدة للقضاء على ما تبقّى من أموال الناس على الرغم من تدهور القدرة الشرائية وتآكل قيمة الرواتب والأجور.
وكما اعتدنا منذ بداية الازمة النقدية ومن بعدها الجائحة الكورونيّة، انتهى الاجتماع بهروب الوزير من مسؤولياته تاركاً القطاع في حالة تفلّت على الأصعدة كافة. وبالحديث عن التأمين الصحي، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أكثر من 700 ألف مُؤمَّن، سينهون مفاعيل تأمينهم الصحية فور بدء الشركات باستيفاء قيمة البوالص وفقاً لآليّة نعمه الجديدة. وكنتيجة لذلك، ستتفاقم الضغوط على وزارة الصحة المفلسة أصلاً، والتي في ذمتها للمستشفيات الخاصة ملايين كثيرة.
في البلد غليان شعبي تجاه القطاع المصرفي، والحال التي آلت إليه الأمور. والحق يقال، فإن كان الصيت للمصارف، فإن الفعل لشركات التأمين، وكمّ المخالفات والتجاوزات التي تقوم بها بحق المواطنين
من جهتها، وكما هو متوقّع، وبدلاً من تصحيح الوضع، تركت لجنة الرقابة على هيئات الضمان الموضوع وكأنه لم يُذكر قطّ. تجاهلته من دون أن تُثار حفيظتها لصون المؤمَّنين والحوؤل دون أن تميل الدفّة نحو مطامع الشركات على حساب صحة كلّ حامل بوليصة. في هذا السياق، فإنّ الأمثلة على تجاوزات اللجنة الرقابية و”تطنيشاتها” كثيرة: فهي تبدأ مع التغاضي عن شركة “Alliance SNA” التي قرّرت وبطريقة اعتباطية منذ أشهر عديدة استيفاء قيمة البوالص التأمينية بالدولار الأميركي من دون أن تتخذ اللجنة أيّ اجراء بحقّ الشركة على الرغم من الشكاوى…
وفي خضمّ هذا القدر من المصالح، تُطرح قضية أخلاقيات المهنة التأمينية التي تتعامل ليس فقط مع مصالح الناس، بل وأيضاً مع صحّتهم وحياتهم.
ففي البلد غليان شعبي تجاه القطاع المصرفي، والحال التي آلت إليه الأمور. والحق يقال، فإن كان الصيت للمصارف، فإن الفعل لشركات التأمين، وكمّ المخالفات والتجاوزات التي تقوم بها بحق المواطنين.
في الحقيقة، لا يختلف قطاع التأمين وكثر من وسطائه عن سائر قطاعات الخدمات المالية اللبنانية التي تسارع ببراعة مذهلة للاستقالة من مهامِّها الاقتصادية والقانونية عندما يكون الوطن بحاجة إليها. وقد أمعن هذا القطاع في الآونة الأخيرة في تنظيم عملية نقض شاملة للأسس والمفاهيم الاقتصادية التي أوجدته، ولم يوفّر القيّمون عليه جهداً لإيجاد واستغلال الثغرات القانونية الكثيرة في البنية التحتية القانونية الصدئة، التي لم تعرف من ينفض عنها الغبار منذ ما يزيد عن عقدين ونيِّف.
ما يحصل في قطاع التأمين باختصار يظهر هشاشة البنية التحتية القانونية. هذه القوانين التي ترتبط – وإن لم يكن ذلك مكتوباً – بالدستور والاتفاقيات الدولية وشرعة حقوق الإنسان والقيم الأخلاقية… كلها مشوّهة
وكان القطاع وأصحاب المصالح الضيقة قد وقفوا سدّاً منيعاً أمام المطالبات بالتعاون في مكافحة جائحة كورونا، ولم يتنازلوا عن أيّ جزء من الأرباح غير المشروعة التي حقّقوها بسبب إجراءات الحجر، والتي أدّت عملياً إلى انتفاء حوادث السير وتقليص العلاجات الاستشفائية والطبية إلى ما هو ضروري ومستعجل، فحقّق القطاع أرباحاً بعشرات المليارات من الليرات اللبنانية خلال الفترة الممتدة من شهر آذار من 2020 ولغاية اليوم. وتبيّن أنّ جزءاً يسيراً من هذه الأرباح كان سيكفي لتغطية أعداد كبيرة من المصابين بكورونا دون منّة من أحد ومن دون الاضطرار إلى المناكفات، وشدّ الحبال مع المستشفيات الخاصة.
وقد تمنّع القطاع عن أداء واجباته في المرحلة التي تلت انفجار مرفأ بيروت. فقد طالعنا المعنيّون بقراءات قانونية تربط دفع التعويضات للمتضرّرين بصدور التقرير النهائي الخاص بأسباب الانفجار.
حتّى اللحظة، شارف كبار معيدي التأمين على الانتهاء من عملية تقييم الأضرار. إلا أنّ التسديد للمتضرّرين المنوط بالتقرير قد يذهب إلى أجل طويل. وبحسب مصادر، بدأت بعض الشركات تتقدّم للحصول على موافقات مسبقة من معيدي التأمين للمتضرّرين، إلا أنّ “المواهب” اللبنانية بدأت تتوالى بشكل كبير حيث تبيّن أنّ عدداً من شركات التأمين يعمد إلى استلام المبالغ المحوّلة من معيدي التأمين في حسابات خارج لبنان تعود غالباً لوسطاء إعادة التأمين الذين يتقاسمون هذه المبالغ مع مديري ورؤساء شركات التأمين، فيما تقوم الشركات بدفع التعويضات بالدولار المحلي أو بالليرة اللبنانية وفق منظومة عنكبوتية يعجز المنطق عن تفهّمها.
ما يحصل في قطاع التأمين باختصار يظهر هشاشة البنية التحتية القانونية. هذه القوانين التي ترتبط – وإن لم يكن ذلك مكتوباً – بالدستور والاتفاقيات الدولية وشرعة حقوق الإنسان والقيم الأخلاقية… كلها مشوّهة.
“التأمين” اليوم في أمسّ الحاجة إلى إعادة بناء ما تهدّم وترميم ما تصدّع. إلا أنّ الطبقة المتعاقبة على الحكم أعجز من أن تتمكّن من استرجاع “القواعد الأخلاقية” التي يحتاجها القطاع، ومن فرض تطبيق القوانين بقوّة القانون. لذا، لا يبقى إلا انتظار السقوط، الذي سيكون مدوّياً، خصوصاً وأنّ “الأمنَين، الاجتماعي والصحي” باتا مهدّدَين كما لم يكونا يوماً.