“بيروت كانت غائبة عن الثورة”. استنتاج مباغت يحمل نغمة الإدانة الذاتية، تلويحاً وتلميحاً بأن البيارتة لا يقاربون السياسة ولا السياسيين إلا من باب المصلحة الآنية. فإن كانوا شاركوا عفوياً في “انتفاضة الواتساب” في 17 تشرين الأول العام الماضي وفي الأيام القليلة الحاشدة التي تلت، فمن أجل الاعتراض على أمر محدّد، وإن بدا الآن تافهاً، ولا يقاس بالكوارث المالية التي تعاقبت وما زالت تتوالد. لكن حتى من منظور الحسّ التجاري في مدينة قامت على مرفأ، يُعتبر ذلك “قصر نظر”. إلا أنّ الأمر أكثر تشعّباً وتعقيداً، من الكلمات المتناثرة كشعارات جاهزة: “حالة طلاق ناجز بين بيروت والسياسة، بل بينها والثورة، واستطراداً بينها والشارع”.
إقرأ أيضاً: منى فيّاض: الثورة تحتاج لمواجهة الحزب وللتنظيم
علينا أولاً أن نفسّر ما المقصود ببيروت، والبيارتة، قبل محاولة الإجابة. إنّ بيروت كما نعرفها، مدينة ميتروبوليتينية metropolitan (واسعة ومتعدّدة الأطياف والثقافات) قامت على عجل من منتصف القرن التاسع عشر، وتضاعف قاطنوها أضعافاً مضاعفة في مدّة يسيرة نسبياً. وبسبب العجلة في النشوء الأخير، وسيادة التيارات الاجتماعية والدينية العميقة داخل أحيائها المتجاورة، لم يقع الانصهار الأفقي بين مكوّناتها، ولم تنضج هوية بيروتية جامعة، وبقي التراصف الطبقي واضحاً، بين أحياء فقيرة وعشوائية، يتجاور فيها التراثي المتهالك والحديث الشامخ، وأحياء فخمة وراقية، كأنها تنتمي إلى بيروت ثانية مختلفة تماماً. وقضت الحرب الأهلية الطويلة بما فيها حروب الأزقة في كلّ شطر منها، على الاختلاط الديني والمناطقي، فانفرزت الأحياء شبه معازل طائفية ومذهبية “غيتوات”، بين ضفتي الخط الأخضر القديم، بين شرقية وغربية. كما بين أحياء القسم ذي الغالبية المسلمة.
انقلب بعض الثوار على بعض، فحرقوا خيم الاعتصام، وضربوا المعتصمين والمتظاهرين، مراراً وتكراراً، تحت شعار “شيعة شيعة”، حتى إنه في لحظة بيروتية حرجة، تدخّل الثوار غير البيارتة، في اشتباكات الأحجار المتطايرة وسط بيروت
وباعتبار أنّ الكتل الدينية تتماهى مع التيارات والأحزاب السياسية، صار بمقدور أيّ متابع، استشراف مواقف الأحياء البيروتية المختلفة من أيّ وضع أو حدث، محلي أو عربي، أو دولي، ولا سيما من الثورة التي أعلنت منذ ابتدائها كُفرانها بالطبقة السياسية جملة وتفصيلاً. واستناداً إلى خارطة العاصمة، يمكن رصد استجابة بيروت للثورة وشعاراتها ومطالبها، على الشكل التالي:
شرقي خط التماس القديم، الأشرفية وجوارها، حيث النفوذ للأحزاب المسيحية الرئيسية، كانت المشاركة كبيرة نسبياً، من مناصرين سابقين للتيار الوطني الحرّ، ومن مناصرين لحزب الكتائب وللقوات اللبنانية، وتيارات المجتمع المدني، وعامة الناس غير المنتمين سياسياً، أي كان المناخ العام مؤاتياً للحراك الشعبي في هذا القسم ذي الغالبية المسيحية. أما غربي الخط، فكان الوضع معقداً أكثر. وخارطة المشاركة متعرّجة. فشرق المزرعة حيث المعقل التقليدي لتيار المستقبل، الطريق الجديدة وجوارها، كان الأكثر استنكافاً عن المشاركة، وكأنها قلة وفاء مع الحريري، مع أنّ دواعي الثورة فيه أكبر، باعتبار المستوى الاقتصادي السيء، ونوعية المعضلات التي يواجهها السكان، من غرب المزرعة حيث ينحدر التأييد الشعبي لتيار المستقبل. وسكانه عموماً من الطبقة المتوسطة وما فوق. أما الأحياء الشعبية المختلطة مذهبياً أو التي يسود فيها أنصار حركة أمل وحزب الله، وهي التي تحتلّ القلب التقليدي للعاصمة، البسطا والمصيطبة وما حواليهما، فكانت ناشطة ثورياً على غير العادة، في الأيام الأولى. قبل أن تنقلب تدريجياً ضدّ الثورة، إثر التحريض المنهجي الذي تولّاه أمين عام حزب الله، ابتداء من خطابه الأول بعد أسبوع من انطلاقها، ضدّ هذه الثورة مشكّكاً بأهدافها، ورافضاً مطالبها السياسية، وداعياً ما أسماه “جمهور المقاومة” إلى الانسحاب من الساحات. وهو تعبير ملطّف عن فئة دينية وحزبية محدّدة.
انقلب بعض الثوار على بعض، فحرقوا خيم الاعتصام، وضربوا المعتصمين والمتظاهرين، مراراً وتكراراً، تحت شعار “شيعة شيعة”، حتى إنه في لحظة بيروتية حرجة، تدخّل الثوار غير البيارتة، في اشتباكات الأحجار المتطايرة وسط بيروت. من هم بيارتة كما هو مفترض، في أحياء مشرفة على الوسط التجاري، شتموا بيروت، باعتبار أنها اسم عَلَم على فئة، أي السُنة. والثوار القادمون من خارج العاصمة، ومن أجل نصرة إخوانهم البيارتة، قلعوا أحجار وسط بيروت، وخرّبوا معالمه، واعتدوا على أملاك الدولة والأفراد، في معارك عبثية على أسوار مجلس النواب، المرة تلو الأخرى، في موجات متعاقبة دون جدوى، وبأكلاف إنسانية باهظة.
لماذا لم تعد بيروت تمتلئ بالمتظاهرين؟ الأسباب متعدّدة ومتنوّعة. بعضها من أخطاء داخلية (المجموعات والكوادر) من حيث طبيعة الخطاب، وواقعية المطالب، وأسلوب المواجهة، والتكتيكات المستعملة، والتواقيت المناسبة. وبعضها الآخر من ضغوط الأحزاب
بعد 12 يوماً، من الثورة، وعقب فشل الهجوم المنسّق الأول من نوعه على ساحة الاعتصام بوسط بيروت، في إنهائه، استقال رئيس الحكومة سعد الحريري، ما أفضى إلى تبديل في نوع التحرّك الشعبي، في أكثر من اتجاه. من جهة، إنّ إسقاط أحد ركني التسوية الرئاسية، أصبح حافزاً لإكمال العملية باتجاه قصر بعبدا، ومجلس النواب، ما فاقم التوتر لدى التيار الوطني الحرّ والثنائي الشيعي، وزاد منسوب العدائية باتجاه الثورة وكوادرها. ومن جهة ثانية، جرى تنشيط البيئة المستقبلية وحراك المجموعات التابعة للحريري، كخط اختراقي اعتراضي داخل مسار الثورة، بما جعله متقاطعاً أحياناً، ومخرّباً أحياناً أخرى، في المدّة التي أعقبت اختيار حسان دياب لتشكيل الحكومة “المستقلة”، ثم تشكيلها. فبات منزل دياب في تلة الخياط، مقصداً لثوار بيارتة ليلياً، للشتم والتنديد به. ومن بين هؤلاء، مؤيدون للحريري، ومعارضون له، ومحايدون. ثم كانت ولادة حكومة دياب، مناسبة أخرى، لمزيد من تشتّت المجموعات الثورية، وثوار بيروت استطراداً. فمنهم من ارتضى منح دياب فرصة، ومن لم يرد ذلك، فكان الجمود سيّد الموقف، كمخرج تسووي حتى لا تنفجر المجموعات التي أصبحت الثورة كلها، بعد انكفاء الجمهور عن تلبية الدعوات، التي خالجها قطع طرق أولاً، ثم رمي حجارة وأسهم نارية ثانياً، ثم ظهرت عبثية المطالب في مواجهة قوى أمنية وعسكرية وقضائية مصمّمة على مناهضة التحرّك وملاحقة الناشطين، بل في مواجهة ميليشيات الأحزاب وجماهيرها المتوثّبة دفاعاً عن الزعيم. والأخطر من ذلك، أنّ الشعارات المذهبية المتقاذف بها، عمداً، أثارت المخاوف من صدامات. وكان هذا هو الردّ الفعّال على ثورة شعبية غير طائفية، نجحت في لحظاتها الأولى، في توحيد الوجدان الوطني على هدف واحد، هو التخلّص من الطبقة الحاكمة. كما أنّ الاتجاه العلماني المحض الذي برز عند مجموعات المجتمع المدني، أشاع نفوراً عند جمهور البيارتة.
لماذا لم تعد بيروت تمتلئ بالمتظاهرين؟ الأسباب متعدّدة ومتنوّعة. بعضها من أخطاء داخلية (المجموعات والكوادر) من حيث طبيعة الخطاب، وواقعية المطالب، وأسلوب المواجهة، والتكتيكات المستعملة، والتواقيت المناسبة. وبعضها الآخر من ضغوط الأحزاب وأجهزة الدولة من حيث الاختراق، والتحريف، والتشويش، والتشويه، وإحياء النزعة الطائفية والمذهبية.