منذ قيام انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019 وجبران باسيل يحاول أن يلعب دور الضحيّة السياسية. من هنا كان رفضه المتكرّر لشعار “كلن يعني كلن” بوصفه “يشمل الصالح والطالح” كما قال الرئيس ميشال عون الأربعاء الفائت.
لكن، وعلى الرغم من كلّ محاولاته – بما في ذلك تكليفه شركة دعائية الاهتمام بصورته على ما قيل – فهو حتّى الآن لم ينجح في تحفيز مقبوليته لدى الرأي العام، وإن كان القول بضمور شعبيته المسيحية إلى حدّ كبير يحتاج تدقيقاً.
إقرأ أيضاً: الانتحاري جبران باسيل
إلّا أنّ زخم بدايات الانتفاضة وطبيعتها اللاطائفية بالمبدأ، لم يفسحا في المجال أمام رئيس “التيار الوطني الحرّ” للانتقال من المظلومية الشخصية والسياسية إلى المظلومية الطائفية، على جاري عادة التيار في دمجه بين ما يدّعي أنها مظلوميته كتيار سياسي يُحاصر ويُمنع من تحقيق مشاريعه الإصلاحية الكبيرة (؟!)، وبين مظلومية المسيحيين منذ انتهاء الحرب الأهلية إذ لم يسمح لهم بأن يشاركوا في الحكم وفق تمثيلهم السياسي الحقيقي، إنّما كان يُؤتى لتمثيلهم في النظام بمن لا يحوز شرعية شعبية وسياسية كافية لديهم.
يحاول باسيل استعادة إمكانات هذا الإدغام بين الشخصي / السياسي والطائفي في لحظة تكليف سعد الحريري تشكيل حكومة جديدة، باعتبار أنّ هذا التكليف مشوب بضعف ونقص تمثيلي يتمثّل بهزالة الأرقام وغياب الدعم من المكوّنات المسيحية الكبرى
هذا الدمج الممنهج، كان السرّ الأساسي لنجاح التيار في بناء زعامة مسيحية كانت الأكثر حضوراً في الوسط المسيحي منذ أواخر الثمانينات، مع رحيل الرئيس كميل شمعون، آخر الزعماء الموارنة التاريخيين. وقد كان زمن الوصاية السورية زمناً مؤاتياً جداً لتحفيز هذا الدمج من خلال الاستحضار المتكرّر لغياب عون عن لبنان زهاء 15 عاماً. ثمّ بعد عودته وتحالفه – خلافاً لأدبياته السابقة – مع “حزب الله”، وزيارته دمشق في العام 2009، ثمّ استخدام هذه التقنية السياسية، أي الإدغام بين السياسي والطائفي، كتقنية رئيسة في كلّ معارك التيار مع خصومه الداخليين.
وهي معارك استمدّت حجّتها الرئيسية ممّا سمّي بالـ”التحالف الرباعي” – بين “تيار المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” و”القوات اللبنانية” و”حزب الله” – الذي كانت وظيفته الرئيسية تمرير الانتخايات النيابية في العام 2005. ولم يرقَ إلى مستوى التحالف الحقيقي كما أثبتت التطوّرات السياسية اللاحقة التي شهدت انقساماً عميقاً بين أفرقائه. كذلك، فإنّ “حزب الله”، أحد الركنين الأساسيين في هذا التحالف إلى جانب “تيار المستقبل”، تحوّل منذ شباط 2006 ليصير الحليف الرئيس لـ”التيار الوطني الحرّ”!
الآن، يحاول باسيل استعادة إمكانات هذا الإدغام بين الشخصي / السياسي والطائفي في لحظة تكليف سعد الحريري تشكيل حكومة جديدة، باعتبار أنّ “هذا التكليف مشوب بضعف ونقص تمثيلي يتمثّل بهزالة الأرقام وغياب الدعم من المكوّنات المسيحية الكبرى. ومن يحاول التغاضي عنه يحاول إعادتنا إلى الوصاية السورية، وهذا لن يحصل”، على ما قال النائب عن البترون في قصر بعبدا الخميس خلال الاستشارات النيابية.
وهو بقوله هذا يحاول دفع الدمج بين المظلومية الشخصية / السياسية وبين المظلومية الطائفية إلى أقصاها من خلال عنوانين: الأوّل، التأكيد هو على أنّ الأمر لا يقتصر على التيار، إنمّا على “المكوّنات المسيحية الكبرى”، مع العلم أنّ بين التيار و”القوات اللبنانية” كما “حزب الكتائب”، خصومة عميقة ومعارك سياسية / انتخابية وإعلامية طاحنة. لكنّ باسيل لا يتورّع على استخدامها في معركته هذه. وهو اتهام يجيده رئيس التيار الوطني الحر جيّداً. والعنوان الثاني يتمثّل باستحضار باسيل للوصاية السورية في محاولة للتذكير باستبعاد الأحزاب المسيحية الكبرى عن السلطة وقتذاك.
لا بدّ من الأخذ في الاعتبار هنا أنّ استراتيجية باسيل المذكورة ليست قصيرة المدى، أي أنّها ليست متّصلة بطبيعة الحكومة العتيدة وتوازناتها حصراً – علماً أنّ باسيل سيسعى بدعم من حليفه “حزب الله” لكي لا تؤلف حكومة يظهر فيها مهزوماً
غير أنّ استراتيجية باسيل هذه تشوبها نقطة ضعف أساسية، وهي أنّ رئيس التيار السابق ميشال عون هو اليوم رئيس للجمهورية، يصفه أنصاره بـ”القوي”. ولذا، فإنّ حضوره على رأس الدولة يفترض أن ينفي أيّ كلام عن استبعاد المسيحيين عن السلطة وإلّا يكون أيّ كلام كهذا بمثابة نفي لقّوة الرئيس. عليه، فإنّ مغالاة باسيل في تظهير المظلومية المسيحية قد ينقلب ضدّ العهد الذي يكابد، أصلاً، مصاعب كبيرة في إثبات قوّته، خصوصاً بعد بلوغ الأزمة الاقتصادية والمعيشية مستويات غير مسبوقة وقد جاء انفجار المرفأ الذي أصاب الجغرافيا المسيحية البيروتية إصابة بالغة ليفاقم مأزق العهد.
مع العلم أنّ تشكيل حكومة من دون التيار والقوات تكون مهمتها الأساسية معالجة ذيول انفجار 4 آب الذي شكّل صدمة كبيرة في الأوساط المسيحية، يطرح سؤال أساسياً عن قدرتها تأمين الغطاء السياسي الكافي لإدارة عملية إعادة إعمار المناطق المدمرة في الإنفجار.
لكنّه سؤال يستدعي سؤالاً آخر وهو: إلى أيّ حدّ لا يزال جبران باسيل قادراً على المناورة في اللعبة الداخلية بعدما أضعفت انتفاضة 17 تشرين حضوره السياسي، وهو إضعاف يغذّيه وهن العهد، وكذلك التهديد المتواصل لرئيس التيار بالعقوبات الأميركية التي لا يمكن مقارنة ضررها على باسيل بذلك الذي ألحقته مثلاً بيوسف فنيانوس وعلي حسن خليل بشخصيهما.
لكن لا بدّ من الأخذ في الاعتبار هنا أنّ استراتيجية باسيل المذكورة ليست قصيرة المدى، أي أنّها ليست متّصلة بطبيعة الحكومة العتيدة وتوازناتها حصراً – علماً أنّ باسيل سيسعى بدعم من حليفه “حزب الله” لكي لا تؤلف حكومة يظهر فيها مهزوماً – بل هي تتطلّع إلى الحلم الرئاسي لباسيل بوصفه حلماً يطمح إلى إعادة إنتاج كلّ التقنيات التي استخدمها رئيس التيار السابق للوصول إلى قصر بعبدا، ولعلّ أبرزها الدمج بين المظلوميتين الشخصية والطائفية. علماً بأنّ اعادة تكليف الحريري تشكيل الحكومة يكسر محظورية وصول رموز سياسية أساسية إلى سدّة السلطة، وهو ما يعزّز حلم باسيل.
إنّما السؤال الأساسي يبقى: هل في مقدور لبنان تحمّل حلمين رئاسيين متتاليين من هذا النوع؟! أم أنّ ثاني الأحلام سيبقى حلماً؟