غوغل يصادر “الطرب”: تقليص الأدمغة وتجميد العواطف

مدة القراءة 6 د


أطلق محرّك البحث الأشهر”غوغل” مؤخراً تطبيقاً يسمح بالتعرّف على الأغاني المفضّلة عبر الهمهمة. يكفي أن يصفّر الشخص أو يهمهم لحناً لأغنية معيّنة لثوانٍ قليلة، حتّى يقوم غوغل بعملية بحث يعرض بعدها لائحة بالنتائج المحتملة.

بعد أن سيطر المجال البصري على عالم الإنترنت، يبدو السؤال مشروعاً حول لجوء المحرّك البحثي الأضخم في العالم إلى مخاطبة المستخدمين عبر خدمة تعتمد على الذاكرة السمعية.

إقرأ أيضاً: ريما الرحباني: “بيي” أقوى من عبد الوهاب

هل يعدّ الأمر اعترافاً مستجدّاً بأهمية السمع في تكوين الذاكرة والعواطف؟ أو محاولة للسيطرة على المجال السمعي وخصوصيته وتحويله إلى جزء من البضاعة الرقمية التي تعرضها علينا مؤسسات الإنترنت الضخمة، ومنها غوغل؟

يمثّل المجال السمعي خطاب الذاكرة الأكثر عمقاً وخصوصية وحميمية. الكائن البشري يلتقط العالم قبل خروجه إلى النور سمعياً، وتتشكّل عواطفه ومخزوناته الحميمة الأوّلية التي تطبع سلوكه وشخصيته، وتؤسّس لكامل بنيته النفسية واستعداداته ومزاجه وتفضيلاته.

طبيعة الصوت المعروض بصيغة رقمية، وبغضّ النظر عن معيار الجودة، تقدّم صوتاً صُودرت منه كلّ علامات الخصوصية والجودة والحياة

البصري يتخذ صفة ما يتراكم فوق البنية السمعية التأسيسية، لكن في عالم الألفية الثالثة ساد وسيطر على كلّ المجالات، وفرض نفسه كخاتمة سعيدة لفعل التلقّي، تلغي الحاجة لأيّ وسيط آخر، وخصوصاً السمع.

من هنا، بات الصوت كأنّه ما تفرزه الصورة في خلفيتها ليس إلا، وكأنّه بمثابة كومبارس يقبع مستكيناً تحت ظلال نجوميتها. ويمثّل الطارئ والعابر في حين تحتلّ الصورة المشهد بوصفها تعبيراً عن الدائم والمستمرّ والأساسي.

عملياً، صار السمع ممتنعاً، ما لم يكن مستحيلاً. وعلى الرغم من ظهور الأجهزة التكنولوجية التي تعزّز فكرة الاستماع وتدعمها من قبيل الـ”آيبود” وغيرها، إلا أنّ التجربة السمعية التي تعرضها مبتورة وناقصة.

طبيعة الصوت المعروض بصيغة رقمية، وبغضّ النظر عن معيار الجودة، تقدّم صوتاً صُودرت منه كلّ علامات الخصوصية والجودة والحياة.

هذا التحويل الكبير الذي استهدف فكرة السمع ككلّ، خصوصاً ما يتعلّق منها بتلقّي الغناء، ليس أمراً بسيطاً وعابراً، بل يمكن النظر إليه على أنّه يؤسّس لنهاية زمان الذاكرة الخاصة والقائمة على التواصل البشري، واستحضار الحميم والخاص والمشترك.

المشكلة الكبرى التي ستواجه الغناء العربي، الذي يرجّح أن ينضمّ إلى قائمة غوغل مع التحديثات المتواصلة، تتعلّق بنسف منطق الطرب الناتج، وفق دارسي أنماط تلقّي الغناء الشرقي، من خصوصية المفاجأة الباعثة على الدهشة، والمتطلّبة لحضور مباشر للمستمعين وللمطرب.

يرتبط الغناء العربي بالحفلة المباشرة، حيث يحدث الطرب حين يخرج المغني على اللحن بشكل غير متوقع، ويستعرض إمكانياته بطريقته التي تفاجئ المتلقّي، وتدخله في حالة من النشوة تسمّى طرباً.

غوغل لا يحبّ المفاجآت، بل يعادي الطرب، ويقدّس فكرة تراكم الداتا. بنية التكرار الآلي المنتظم تحكم عمله، فهو يبني عند المستخدمين عادات يقلّ فيها الاهتمام بالمادة المسموعة شيئاً فشيئاً لصالح وسيلة العرض.

تحفظ الشعوب أغانيها بالتكرار والتلقّي السمعي، وينتقل التراث الغنائي إلى الأفراد، خصوصاً الأغاني الشعبية والفلكلور، من خلال المقرّبين والأهل والعائلة والجدّات والأصحاب، وكذلك من خلال وسائل البثّ التقليدية، التي تتعامل معه بوصفه مادة سمعية بحتة

ما إن تحمّل تطبيق الهمهمة أو سواه حتى تصبح رمزياً مالكاً للأغاني التي تريدها أو قادراً على إضافة وتحميل والاستماع لكلّ ما ترغب به.

علاقة الملكية الرمزية هذه التي يشجّعها غوغل تناقض تجربة السمع ومنطق تلقّيه، والخصوصية الاجتماعية والثقافية للحفلة.

حين يقرّر المرء الذهاب إلى حفلة، فإنه يقوم بنشاط ثقافي اجتماعي، وله بعد اقتصادي وسياسي كذلك. والأهم أنّ الموقع الذي يحدّده لنفسه، ليس موقع ممتلك الغناء، بل المتفاعل معه.

ببساطة، في الحفلة يتواصل الناس مع الغناء ومع المطرب، ويعيشون في مناخه وأحواله، بينما مع التطبيقات، فإنهّم يستهلكونه وحسب.

تحفظ الشعوب أغانيها بالتكرار والتلقّي السمعي، وينتقل التراث الغنائي إلى الأفراد، خصوصاً الأغاني الشعبية والفلكلور، من خلال المقرّبين والأهل والعائلة والجدّات والأصحاب، وكذلك من خلال وسائل البثّ التقليدية، التي تتعامل معه بوصفه مادة سمعية بحتة.

الوظيفة المناطة به تتحدّد في أنه يمثّل وعياً ثقافياً خاصاً تبنى على أساسه فكرة الخصوصية. عندما يحاول المرء استرجاع أغنية قديمة كانت أمه تغنّيها له وهو طفل وقد نسيها، فإنه قد يسأل والدته إذا كانت المطربة لا تزال على قيد الحياة أو يتذكّرها إذا كانت قد توفّيت، أو قد يسأل المقرّبين من أفراد العائلة عنها. وحين يتمّ استرجاعها، فإن ما يستعاد بالصوت، هو السيرة والحياة والذاكرة الخاصة.

هذا بالتحديد ما يريد غوغل أن يسلبنا إياه. فهو يريد أن يتحوّل إلى المرجع النهائي لذاكرتنا وثقافتنا مؤسّساً بذلك لنظام سياسي وثقافي جديد لا نكون فيه فاعلين على الإطلاق، بل خانعين وخاضعين وغير قادرين على إنتاج الذاكرة والمعاني. والأخطر أننا لا نعود قادرين على امتلاك واسترجاع المناخات والسياقات التي تبنى عليها الخصوصيات والهويات.

تريد الشركة المشغّلة لمحرّك البحث الأضخم عالمياً تقليص أدمغتنا وتجميد عواطفنا وتوجيه أفكارنا، لكي يكون تفوّق عقلها الإلكتروني حاسماً ونهائياً

لعبة غوغل هي تفكيك الثقافة، ورقمنة العواطف، والانفعالات، وبرمجة ردود الأفعال، وتوجيهها عبر المجال السمعي الذي لا يزال خارج السيطرة المطلقة.

لا تتذكّر الوالدة، ولا تسأل جدتك أو صديقك عن الأغنية التي نسيتها، بل اسأل غوغل. كن وحيدا في غرفتك، والعالم سيأتي إليك.

التبادل الثقافي والفكري المباشر لم يعد ضرورياً، وكذلك الشارع والميدان العام.

يحاول غوغل إلغاء وظيفة الذاكرة الغنائية بكلّ ما تفتحه من أبعاد حيوية متصلة بميادين النشاط البشري كافة، وتحويلها إلى بنية رقمية معادية لفعل التواصل الضروري لنمو الدماغ البشري.

تريد الشركة المشغّلة لمحرّك البحث الأضخم عالمياً تقليص أدمغتنا وتجميد عواطفنا وتوجيه أفكارنا، لكي يكون تفوّق عقلها الإلكتروني حاسماً ونهائياً.

إنّها لحظة الشمولية المطلقة التي ترتدي ثوب تكنولوجيا فائقة لا قلب لها، وليست الأغاني التي رقصنا وبكينا عليها بالنسبة لها سوى مادة عمياء.

ربما علينا الدفاع عن أغانينا بتذكّرها مع من نحبّ، واستعادتها بطرق غير رقمية. لا يوجد طريقة أخرى لنهزم غوغل غير ذلك.  

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…