عقدت الهئيات الإقتصاديّة اللبنانيّة اجتماعاً طارئاً واستثنائيّاً أطلقت على إثره “نداء إستغاثة لإنقاذ لبنان”، محذّرة من مرحلة “ستنعدم خلالها السيولة بالعملات الصعبة، ويرتفع سعر صرف الدولار من دون سقوف، وتندثر القدرة الشرائيّة ويرتفع التضخّم إلى مستويات عالية غير مسبوقة عالمياً”. أما أبرز ما حذّرت منه الهيئات، فهو الوصول إلى مرحلة “تتعطّل خلالها محركات الإقتصاد كافة، ما يعني إقفال شبه شامل للمؤسسات وبطالة جماعيّة وفقراً مجتمعيّاً وجوعاً عابر للمناطق والطوائف والمذاهب”.
إقرأ أيضاً: فشل مدوٍّ لـ”الدعم”: التضخم 120% في 8 أشهر
عمليّاً، بدا واضحاً من مقدمة البيان أن أبرز ما دفع الهيئات إلى إطلاق هذا البيان في هذه المرحلة بالذات هو الخوف من تطيير مبادرة الرئيس ماكرون والورقة الإصلاحيّة التي قدّمها. وفي ما يتعلّق بهذه الخشية بالذات، قد يكون توقيت البيان مرتبط باقتراب موعد الإستشارات النيابيّة المترقب حصولها يوم الخميس المقبل، وما يُحكى عن إمكانيّة تأجيلها مجدداً لأسباب ميثاقيّة. وبذلك، يمكن القول إنّ الهيئات الإقتصاديّة قرّرت من خلال بيانها استباق أي محاولة للمماطلة في عمليّة التكليف أو التأليف لاحقاً، بأن قرعت جرس الإنذار بهذا الشكل. ولهذا السبب بالذات، ركّز البيان بشكل صريح على ضرورة الإسراع فوراً بتشكيل حكومة قادرة على “تنفيذ الورقة الفرنسيّة الإنقاذيّة لإعادة إعمار بيروت وإنقاذ لبنان”.
يمكن القول أن خطوة فرض قيود جديدة على سحب السيولة بالليرة اللبنانيّة من المصارف مثّل بالنسبة للمؤسسات التجاريّة تطوّر شديد الخطورة
في الواقع، يمكن القول إنّ فهم اللهجة التحذيريّة للهيئات الإقتصاديّة يستلزم العودة إلى العديد من المؤشّرات النقديّة والماليّة، التي تلمّستها الهيئات وتلمّست أثرها على مصالحها المباشرة. فاقتراب احتياطات المصرف المركزي القابلة للاستخدام من الإستنفاد بشكل تام، واتجاه المصرف المركزي لرفع الدعم أو تقليصه، لن يعني سوى الدخول في نفق مظلم من التضخّم وارتفاع أسعار المواد الأساسيّة، مع كل ما يعنيه ذلك من تراجع القدرة الشرائيّة على مستوى المستهلكين، والمزيد من الركود على المستوى الإقتصادي. أما الدولارات الموعودة من صندوق النقد الدولي، فباتت مربوطة برزمة من الإصلاحات التي تنسجم مع الخطوط العريضة للورقة الفرنسيّة، التي أصبح مصيرها معلّقاً بتشكيل الحكومة الجديدة وفقاً لبنود المبادرة الفرنسيّة. ومن هنا، يمكن فهم تشديد البيان على موضوع التضخّم وانفلات سعر الصرف وإنعدام السيولة بالعملة الصعبة، وربط هذه التطوّرات بملف الحكومة والمبادرة الفرنسيّة.
في المقابل، يمكن القول أن خطوة فرض قيود جديدة على سحب السيولة بالليرة اللبنانيّة من المصارف مثّل بالنسبة للمؤسسات التجاريّة تطوّر شديد الخطورة. ورغم أن مصرف لبنان توصّل مع جمعيّة المصارف إلى تسوية تخفف من قسوة هذه التدابير، لكنّ من المؤكّد أن المصارف ستستمر بفرض هذه القيود ولو بدرجة أقل. علماً أنّ الجميع بات مدركاً أنّ السبب الأساسي لهذه القيود يعود إلى حتميّة ضبط السيولة بالليرة اللبنانيّة بالتوازي مع الضوابط المفروضة على السيولة بالدولار، للجم الإرتفاع في سعر الصرف في ظل شح العملة الصعبة في الأسواق. أما خطورة هذه التطوّر بالنسبة إلى الهئيات الإقتصاديّة، فيكمن في أثره على الطلب والأستهلاك المحلّي، وفي مساهمته بتعميق الركود الحالي في السوق، ومن هنا يمكن فهم ردّة الفعل القاسية للهيئات الإقتصاديّة في وجه القرارات التي اتّخذتها المصارف مؤخّراً بتقييد السحوبات بالليرة اللبنانيّة.
في كلّ هذه التطوّرات، ثمّة مسار واحد للخروج من النفق، وهو يمر بشكل إجباري في عمليّة تأليف الحكومة الجديدة. فتشكيل الحكومة هو الخطوة الممهّدة للعودة لمناقشة خطّة التعافي المالي واستكمال التفاوض حولها مع صندوق النقد الدولي والمصارف ولجنة المال والموازنة في المجلس النيابي، وصولاً إلى مرحلة استقدام الدعم الخارجي من الصندوق على أساس هذه الخطة. وتشكيل الحكومة بات مسألة إلزاميّة لإنجاز عدّة ملفّات يصر عليها المجتمع الدولي قبل منح أي مساعدات لبنان، من قبيل التعيينات في الهيئات الناظمة والتعيينات القضائيّة وتعديل خطّة الكهرباء وصولاً إلى إقرار قانون الكابيتال كونترول الذي تتريّث لجنة المال والموازنة في مناقشته بإنتظار العمل عليه من قبل الحكومة القادمة جزء من خطّتها المتكاملة.
عمليّة الخروج من الإنهيار المالي لن تقتصر على تشكيل الحكومة تحمل شعار تنفيذ المبادرة الفرنسيّة، وهذا ما لم تُشِر إليه الهيئات الإقتصاديّة بشكل واضح ومباشر
آخر الإحصاءات تشير إلى أن نسبة إقفال المؤسسات سيتراوح بين 35% و40% في نهاية العام الجاري، فيما تشير الأرقام إلى أن 60% من المؤسسات التجاريّة الباقية باتت على مشارف مرحلة الإفلاس الكلّي.
اختصار، يمكن القول إنّ الهيئات الإقتصاديّة وصلت إلى مرحلة الخشية على وجود المؤسسات التي تمثّلها نتيجة التحوّلات الأخيرة على المستويين المالي والنقدي، وهو ما يفسّر النبرة العالية في البيان الذي أطلقته. أما التشديد على مسألة الحكومة وتشكيلها والمبادرة الفرنسيّة، فيتصل بالدور المنتظر للحكومة القادمة على هذا المستوى.
بالتأكيد، عمليّة الخروج من الإنهيار المالي لن تقتصر على تشكيل الحكومة تحمل شعار تنفيذ المبادرة الفرنسيّة، وهذا ما لم تُشِر إليه الهيئات الإقتصاديّة بشكل واضح ومباشر. فالمطلوب أوّلاً تشكيل حكومة تملك أجندة واضحة ومعلنة من الإصلاحات المطلوب تنفيذها للخروج من حالة الإنهيار، كما ينبغي أن تملك هذه الحكومة القدرة على تجاوز العراقيل السياسيّة التي أفشلت تنفيذ هذه الإصلاحات في الماضي. وفي كلّ الحالات، ينبغي أن يسأل اللبنانيون عن نوعيّة المعالجات النقديّة بالتحديد التي ستذهب إليها هذه الحكومة، والفئات الإجتماعيّة التي ستتحمّل كلفتها.