هل يجب على الأحزاب والقوى اللبنانية التي تقف في الجهة المقابلة لحزب الله – من دون حلفائه – الخوف على مستقبل دورها وموقعها في المعادلة السياسية اللبنانية في المستقبل؟
سؤال قد يبدو منطقياً وموضوعياً، وطفا على سطح التحدّيات اللبنانية المستجدّة والمتجدّدة في الآونة الاخيرة التي شهدت الإعلان عن انطلاق مسار التفاوض حول ترسيم الحدود بين الدولة اللبنانية والحكومة الإسرائيلية بإشراف من الأمم المتحدة ورعاية الولايات المتحدة الأميركية.
إقرأ أيضاً: عصا إيرانية في العراق… وجزرة في لبنان
الإشارة الأبرز والأكثر وضوحاً حول إمكانية إطلاق هذا المسار التفاوضي المحدود، جاءت في خطاب لأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في 14 آب 2020 عندما رفع السقف في التمسك بسلاح الحزب والمقاومة لأنه يمثّل مسألة وجودية للحزب ما لم يقدّم البديل الحقيقي. وهذا البديل كانت مؤشراته تكمن في الانتهاء من ورقة الإطار لمفاوضات الترسيم التي انتهى العمل عليها في مطلع شهر تموز، ونامت في أدراج رئيس مجلس النواب نبيه بري بانتظار الخطوة الاميركية التي كان المطلوب منها الحصول على موافقة الجانب الإسرائيلي على مندرجات وآليات هذا الإطار التفاوضي.
قد يكون من حق الأطراف اللبنانية التي تقف في الخندق المقابل للحزب، الحديث عن وجود مؤشرات على تسوية إقليمية، لا بل في منطقة غرب آسيا يقوم بها النظام الإيراني بشكل غير مباشر مع الإدارة الأميركية، يصبح فيها لبنان تفصيلاً. وهي تسوية لا تبدأ من العراق مروراً بسوريا وصولاً إلى لبنان ولا تنتهي به. وإنّ هذه التسوية، في حال كانت حقيقة وواقعاً، سمحت لحزب الله بتمرير فتح هذا المسار التفاوضي الذي لم يكن بعيداً أو مستبعداً في الإطار النهائي للاستراتيجية التي يعمل عليها مع طهران في الإقليم، وتحديداً في ما يتعلّق بالحالة العدائية والتنافسية مع الطموحات الإسرائيلية في مقابل طموحات المشروع الذي تقوده طهران وتعمل على تكريسه في الإقليم.
البيان الذي أصدره الثنائي الشيعي أو “الثنائي الوطني” حسب التسمية الجديدة التي اعتمدها الطرفان في الآونة الاخيرة، لم يكن الهدف منه تعطيل انطلاقة مسار مفاوضات الترسيم، بل جاء من أجل تصويب المسارات وكبح الاندفاعات لدى حليفه التيار العوني
ولا بأس هنا بالتذكير أنّ رؤية شاملة لإنهاء حالة الحرب في لبنان جرى رسم خطوطها العامة بين طهران وحليفها اللبناني مبكراً، قبل اندلاع الانتفاضات العربية والأزمة السورية، وشكّلت جزءاً من رؤية تشمل منطقة غرب آسيا بمجملها، وكانت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى خواتيمها مع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش ووزيرة خارجيته كونداليسا رايس، واستمرت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، لكن على نصاب مختلف ترك فيها الجانب الأميركي لإيران مساحة للتعامل مع المستجدّ الإقليمي، وقدرتها على فرض مساحات نفوذها بانتظار الانتقال الى التسوية النهائية.
البيان الذي أصدره الثنائي الشيعي أو “الثنائي الوطني” حسب التسمية الجديدة التي اعتمدها الطرفان في الآونة الاخيرة، لم يكن الهدف منه تعطيل انطلاقة مسار مفاوضات الترسيم، بل جاء من أجل تصويب المسارات وكبح الاندفاعات لدى حليفه التيار العوني الذي حاول استغلال الفرصة وحرق المراحل من أجل الوصول إلى المرحلة النهائية من عملية التفاوض التي من المفترض ان تمرّ بمراحل متعدّدة ومعقّدة وتسويات قبل الوصول إلى ما يمكن تسميته معاهدة سلام. لكنها في أدبيات ورؤية حزب الله لن تكون سوى تفاهم عدم اعتداء تؤسس لاحقاً إلى إمكانية سلام بناء على المعطيات الإقليمية التي سيجري التفاهم حولها بين طهران وواشنطن.
اندفاعة التيار الوطني الحرّ لحرق المراحل، لم تكن الأولى التي يواجهها الحزب مع هذا الحليف. فهو سبق أن أخرج إلى العلن ما يمكن القول عنه إنه نقاشات داخلية بين الحليفين حول القضايا الإقليمية ورؤية الحزب للصراع بينه وبين إسرائيل، عندما تحدّث رئيسه جبران باسيل عن عدم العداء مع إسرائيل وحقها في الوجود، وصولاً إلى إشارة رئيس الجمهورية في مقابلته مع إحدى وسائل الإعلام الفرنسية عن وجود “ملفات خلافية أبرزها عملية ترسيم الحدود لا بدّ من حلها”، أي عدم استبعاد المسار السلمي، لكن بعد الانتهاء من استرجاع الحقوق اللبنانية.
من المؤكد أنّ حزب الله لم يقدم على خطوة تسهيل إطلاق مسار التفاوض على ترسيم الحدود من دون التنسيق مع القيادة الإيرانية، انطلاقاً من كون ايّ خطوة منفردة يقوم بها الحليف اللبناني ستضعف الموقف التفاوضي الإيراني مع الولايات المتحدة، وتؤثّر سلبا في الرؤية الإيرانية لمنطقة الشرق الاوسط، وصراع النفوذ بينها وبين اللاعب الإسرائيلي. وهي خطوة بدأت مؤشراتها إيرانياً في العراق من خلال الاتفاق الذي جرى بين الحكومة الاتحادية برئاسة مصطفى الكاظمي ورئاسة إقليم كردستان حول إدارة منطقة سنجار ذات الغالبية الإيزيدية، وأدّى إلى سحب ألوية الحشد الشعبي التي كانت تتولى مهمة الدفاع عن هذه المنطقة، وإدارتها بعد القضاء على تنظيم داعش. فعلى الرغم من أهمية هذه المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا وتركيا، وموقعها الاستراتيجي في عملية الربط البري بين طهران والعمق السوري، وموقعها على خارطة خطوط الطاقة، إلا أنّ الجانب الإيراني لم يبد حتى الآن أيّ اعتراض على هذه الخطوة التي تعتبر في ظاهرها تقليصاً لدور ونفوذ مؤسسة الحشد الشعبي في المعادلة العراقية.
بالعودة إلى السؤال حول موقف الأحزاب والقوى اللبنانية المعارضة والمتخاصمة مع الحزب، هل ستقبل بأن تكون شريكاً هامشياً مع هذا الحزب الذي قاد عملية تسهيل مفاوضات الترسيم وما بعدها، وكرس نفسه شريكاً اساسياً لا يمكن تجاوزه؟
تمرير حزب الله لخطوة التفاوض حول الترسيم، قد تشكّل خطوة اختبار لمصداقية النيات الأميركية وليس الإسرائيلية، وجدّيتها في تنفيذ دور الوسيط، وتسهيل عملية الانتقال إلى المرحلة أو الخطوة التالية في الاستراتيجية التي وضعها الحزب لهذا المسار، أي أنّ الانتهاء من موضوع ترسيم الحدود البرية، سيؤسس لمرحلة الترسيم البري، وبعدها حسم ملف الحصة اللبنانية من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر بإشراف الأمم المتحدة أيضاً. وبعدها، الانتقال إلى مسألة تحديد الحدود مع سوريا. وبناء على التقدّم الذي تحرزه هذه المسارات المنفصلة، يجري الانتقال إلى مرحلة البحث في إعادة صياغة النظام اللبناني على أسس جديدة تمهّد لموضوع الاتفاق على الاستراتيجية الدفاعية وسلاح الحزب. وكلّ هذه الخطوات مرهونة بمدى القدرة الأميركية على الالتزام بأيّ اتفاق أو تفاهم قد تعقده مع الجمهورية الإسلامية. وإلا، فإن الأمور قابلة للعودة إلى نقطة الصفر والمقامرة بكل شيء طالما أنّ الخسارة محسومة في كلا الحالين.
وهذا يعني أنّ المفاوضات في حسابات الحزب لا تعتبر أمراً محسوماً أو قطعياً أو بات حقيقة لا يمكن إنكارها. بل إنّ نجاحها مرتبط بحجم البدائل الحقيقية التي سيحصل عليها في التركيبة اللبنانية وهذه مسألة شديدة التعقيد. وفي حال استقرت الإرادة الدولية وتحديداً الأميركية على الانتهاء من موضوع الترسيم بما فيه من مطلب أساس لدى كلّ الإدارات الأميركية المتعاقبة يتعلّق بالحصول على ضمانات أمنية لإسرائيل، فإن التركيبة الداخلية اللبنانية ستتعرّض لتغييرات جذرية، وقد تشهد، على الرغم من كلّ الضغوط السياسية والاقتصادية التي تمارسها واشنطن على حزب الله ومع لبنان، تحوّلاً يقود إلى تسوية يصير بموجبها الحزب لاعباً مقرّراً داخلياً برضى دولي وعدم معارضة أميركية.
بالعودة إلى السؤال حول موقف الأحزاب والقوى اللبنانية المعارضة والمتخاصمة مع الحزب، هل ستقبل بأن تكون شريكاً هامشياً مع هذا الحزب الذي قاد عملية تسهيل مفاوضات الترسيم وما بعدها، وكرس نفسه شريكاً اساسياً لا يمكن تجاوزه؟ وما هي قدرات هذه القوى على رفض أيّ توافق محتمل يحصل فيه الحزب على تفويض دولي وأميركي بتوجيه الساحة اللبنانية؟ وهل إنّ الهبّة التي نشهدها هذه الأيام من هذه القوى التي تركز على التناقض في مواقف الحزب من مسألة العداء لإسرائيل والدخول في التفاوض معها، هي تعبير عن مخاوف هذه القوى من إمكانية ابتلاع الحزب لأدوارها؟ خصوصاً أنّ الجانب الأميركي لا يقف عند طبيعة وماهية الجهة التي قد تسهّل تحقيق مصالحه وتحديداً الاستراتيجية؟ يمكن الاعتبار على سبيل المثال، بتلك الجهود الأميركية المبذولة من أجل التوصل إلى اتفاق مع حركة طالبان في أفغانستان، بغضّ النظر عن الهدف الذي تقوم عليه.