ساعات قليلة بين إعلان وزير الخارجية جبران باسيل تمسّكه بخيار حكومة تكنوقراط في مواجهة المرحلة المقبلة “لأنّ الأولوية للوضع المالي”، وبين إعلان رئيس مجلس النواب نبيه برّي الصريح بأنّ متطلبات تغيّر ملامح الصراع في المنطقة وقطع الخطوط الحمراء إثر الضربة الأميركية في بغداد يستدعيان السير بحكومة “لمّ شمل وطني” وجامعة لكل الأطياف السياسية، حتى تلك الرافضة لخيار الرئيس المكلّف حسّان دياب.
عملياً، لم يكن موقف عين التينة سوى صدى لصوت الحليف الشيعي الآخر، “حزب الله”، الذي منذ اللحظة الأولى أدرك أنّ عدّة شغل ما بعد “ضربة دونالد ترامب” ليس كما بعدها، وإن كان الموقف شبه الرسمي المعلن ينادي بحكومة “في أسرع وقت ممكن”.
واقع الحال أنّ المشهد العراقي بكلّ تداعياته لم يُضِفْ تغييراً إلى استراتيجية تعاطي القوى السياسية مع حكومة دياب بقدر ما كشف عن المستور وعن غير المقروء في الخطابات المعلنة لأولياء اللعبة الحكومية.
هو الفارق في النظرة بين المعسكر الذي تمسّك حتى آخر لحظة بخيار الرئيس سعد الحريري بعد الاستقالة المفاجئة في 29 تشرين الأوّل الماضي، وعَكَسه بشكل واضح موقف الثنائي الشيعي، وبين المستغني ليس فقط عن الحريري، بل عن “خدمات” حكومات الوحدة الوطنية التي اختبر العهد “صنفين” منها وانتهى الأمر بتقبّل العزاء بتسوية رئاسية أحالت “الشيخ سعد” عضواً في نادي رؤساء الحكومات السابقين. هذا المعسكر قائده الوزير جبران باسيل، ومن خلفه رئاسة جمهورية وضعت الحريري على لائحة الممنوعين من الصرف الحكومي في ما تبقّى من الولاية الرئاسية.
وحول المعلومات التي تحدثت عن اتصال مباشر أجراه الرئيس نبيه برّي مع الرئيس الحريري لدعوته إلى حضور الجلسة التشريعية لإقرار الموازنة، لا يرى مطلّعون سوى محاولة من عين التينة لإعادة “دمج” رئيس حكومة تصريف الأعمال مع الواقع اللبناني المأزوم والذي بدا الأخير في حالة انفصال كامل عنه إلى حدّ التخلّف حتى عن تصريف الاعمال.
والمعلومات تفيد في هذا السياق أنّ برّي أوصل أكثر من رسالة إلى الحريري بعد مغادرته لبنان يحثّه على عدم إدارة الظهر والبقاء في دائرة الملعب الحكومي، فيما كانت الشكوى واضحة من المنحى الذي تتّخذه مفاوضات التأليف الحكومي إلى حدّ مصارحة عابرة للمحيط بين برّي والحريري يقول فيها الأوّل للثاني “أنا لا أشارك في حكومة يسيطر عليها جبران باسيل”.
وفيما يبدو باسيل ميّالاً إلى توسيع الحكومة على قاعدة أنّ “دمج بعض الوزارات هو عنوان فشل حكومي مسبق”، مع ارتياحه الكامل لبقاء “القوات اللبنانية” و”الحزب التقدمي الإشتراكي” و”تيار المستقبل” خارجها، ومع تلويحه الدائم بأنّ “التيار الوطني الحر” قد يبقى خارجها أيضاً ربطاً بعناوين برنامجها وآلية العمل فيها، إلا أنّ قوى الثامن من آذار وعلى خلفية ارتدادات الزلزال في المنطقة، تنحو باتجاه توسيع قاعدة التمثيل الحكومي لتضمّ وجوهاً سياسية واضحة الانتماء، استناداً إلى متطلبات مرحلة المواجهة حيث “يتعذر الإتّكال على حكومة “مدراء عامين” في أصعب وأخطر مرحلة تمرّ بها المنطقة ولبنان”، ما يحيلنا إلى إزالة الغبار عن حكومة “التكنو سياسيين”.
وباسيل الذي يردّد دوماً خيبته من خسارة بعض الوجوه المحسوبة عليه والتي تتماشى مع متطلّبات المرحلة واضطر لـ”التضحية” بها بسبب معايير الحكومة الجديدة، كوزيرة الطاقة ندى البستاني، لا يمانع، وفق أوساطه، اعتماد تلوينة سياسية تدخل بعضاً من هذه الوجوه إلى الحكومة لكن مع خطّ أحمر عريض: لا استنساخ لحكومات “الفشل الوطني” حتى لو بدأت الحرب في المنطقة. أما الفيتو الأكبر فهو “لا لسعد الحريري في السرايا مجدداً”. وفي العقل الباطني الباسيلي لا ينظر وزير الخارجية أصلاً إلى حكومة التكنوقراط سوى بوصفها “أمراً واقعاً” فرضه صخب الشارع بتاريخ صلاحية محدّد.
هناك عقبات جدّية لا تزال تعترض صدور مراسيم الحكومة، أبرزها عدم تحديد “التيار الوطني الحر” حتى الآن شكل المشاركة في الحكومة
في المقلب الشيعي، يؤكّد مصدر مطّلع على تطورات الملف الحكومي أنّه “مع تكليف حسّان دياب كان يفترض إيجاد خلطة تجمع بين ظروف مجيئه وبين التوازنات الدقيقة التي تحكم عادة تأليف الحكومات. ولاحقاً أتت الضربة الأميركية في بغداد وما استتبعته من ردّ إيراني على الأرجح لن يكون يتيماً، لتفرض تعديلاً في الأولويات قد يأخذ الحكومة إلى منحى آخر لم يعرف حتّى الآن مدى تقبّل الرئيس المكلّف له، وما إذا سيحمله إلى الاعتذار عن التكليف أو تدوير الزوايا من ضمن سياسة مراعاة التغييرات التي فرضت نفسها على المشهد اللبناني”.
وحتّى الآن، وفق المعطيات المتوافرة، هناك عقبات جدّية لا تزال تعترض صدور مراسيم الحكومة، أبرزها عدم تحديد “التيار الوطني الحر” حتى الآن شكل المشاركة في الحكومة، رغم الأسماء التي أسقطها الرئيس المكلّف على الحقائب والتجاوز المبدئي لأزمة حقيبة الخارجية بتطيير الوزير السابق دميانوس قطار من قصر بسترس ومن الحكومة. فباسيل، من ضمن مناوراته، لا يزال يلوّح بإمكانية مقاطعتها مع منحها الثقة أو عدم منحها الثقة، ومن جهة أخرى فرمل الفريق الشيعي المداولات الحكومية ولم يسلّم أسماء وزرائه مع الإصرار على توسيع قاعدتها وتلوينها بحضور سياسي قد يصل إلى حدّ دفع حسّان دياب إلى الإعتذار… والاستعانة بـ “الصديق” سعد الحريري.