“السلاح” والثورة: هكذا حكم سليماني في لبنان

مدة القراءة 5 د


“كثيرون من اللبنانيين فضّلوا “التأقلم مع الوحش” الساكن في الجمهورية. وهم في هذا شأنهم شأن سكّان الغابة الذين رضوا أن يسلّموا للأسد طوعاً “فريسة” منهم، كل يوم، على أن يمنحهم “أمان” العيش. لكنّهم يدركون في أعماقهم أنّ الدور آتٍ عليهم، ولو بعد حين، بإنتظار الأرنب الذي يفوق الأسد دهاءاً، ويقوده إلى “بئر السقوط” والذي لم يظهر بعد.

بمثابرةٍ موصوفةٍ ودهاءٍ لا يعرف الكلل، وخطةٍ واضحةِ الأهداف، وإصرارٍ على اعتماد جميع الوسائل للتنفيذ، السياسية منها والإعلامية، العنفية منها والعسكرية، إستطاع الإيرانيون، بإشرافٍ مباشر من الجنرال قاسم سليماني، أن ينقلوا اللبنانيين من مرحلة إلى أخرى، من التطبيع والتمييع والإلهاء وتفريع القضايا، منذ إنشاء “حزب الله” كواجهة لبنانية في الثمانينيات وصولاً إلى زيارته الأخيرة نهاية العام الماضي، ليصبحوا الآن متغاضين عن حقائق مخيفة تتجلّى أمام أعينهم، لكنهم لم يعودوا يريدون رؤيتها، أو تأقلموا معها، رغم أنّها في الحقيقة نافرة ومنافية لمنطق الدولة، ولو بحدوده الدنيا.

  •   حقائق مُغـيـّبـة

 من أكثر الأمور غرابة وإستهجاناً، ذلك الإستسلام الذي خضع له الكثيرون تجاه قضايا تعتبر ثوابت أيّ دولة وأيّ وطن، يتمسك بالحدّ الأدنى من السيادة والهوية والإنتماء. والأنكى من ذلك قيام فريق من اللبنانيين بالإنخراط في منظومة إيران، بحرسها الثوري، وبواجهتها اللبنانية، المتمثلة في “حزب الله”، فبات الوطن مقسوماً قسمة غير عادلة، وتشظّت القوى السيادية، ليسيطر مشهد طمس الحقائق التالية:

ــ حقيقة أنّ “حزب الله” يتحكم بقرار الحرب والسلم أكثر من أي وقتٍ مضى. منذ ما قبل التحرير وإلى ما بعد حرب 2006، وصولاً إلى وقتنا الراهن، حين أعلن أمينه العام نصرالله أنّ مسؤولية الردّ على تصفية واشنطن لقاسم سليماني هي من واجب منظمات “محور المقاومة”، حيث يقف الجميع اليوم على شفا مواجهة شاملة ومفتوحة.

ــ حقيقة أنّ “حزب الله” يستعمل السلاح لفرض التغيير والإبتزاز السياسي، منذ إنقلاب 7 أيار 2008، ثمّ حكومة “القمصان السود” في العام 2011. وعند كل محطة يضع سلاحه على الطاولة، فارضاً معادلة: إما الخضوع أو العودة إلى الإغتيالات والإنقلابات؟ وتعطيل الحياة الوطنية ومجلس النواب لأكثر من سنتين لإنتخاب الرئيس ميشال عون، ولفرض قانون إنتخاب إكراهي يضمن فوز “حزب الله” وحلفائه، هو ما أدى إلى هذا الخلل الخطِر في التوازنات.

ــ حقيقة أنّ “حزب الله” يقيم إقتصاداً موازياً، ويستعمل مرافق الدولة لإدخال بضائع مختلفة تحت ستار “خط المقاومة” فيمنع وضع آلات “السكانر” في مرفأ بيروت، ويرعى المعابر غير الشرعية، محطماً قواعد العمل التجاري المنصف، لأنّه يؤمن لفئة من التجار بضائع مهربة بدون رسوم جمركية، وخارج النظام الضريبي بيعاً وشراءً، بينما يرزح مجمل التجار ومرافق الإقتصاد تحت وطأة المنافسة غير العادلة.

ــ حقيقة وجود معسكرات للحرس الثوري الإيراني في البقاع يجري فيها “حزب الله” تدريب مقاتلين لبنانيين وعراقيين ويمنيين ومن جنسيات مختلفة، يمنع على الأجهزة الأمنية الشرعية الإقتراب منها.

ــ حقيقة إختراق إيران والحزب المناطق اللبنانية بواجهة “سرايا المقاومة” التي باتت تنشر المسلحين ومخازن السلاح في أربع زوايا الوطن، ترتكب الإنتهاكات، وتفتح الإشتباكات من بيروت إلى صيدا، ومن طرابلس إلى الناعمة.. وتستبيح القانون بلا حسيب ولا رقيب.

ــ حقيقة خرق القرار 1701. فالجميع بات يعلم أنّ هذا القرار أصبح اليوم مفرّغاً من بعده الأمني، لأنّ “حزب الله” لم يقم فقط بإظهار وجوده المسلح عبر عراضات استقدام القياديين في الميليشات الإيرانية، بل من خلال تحييد قوات اليونيفيل ومنعها من سلوك مناطق واسعة خاضعة نظرياً لهذا القرار، عاد فيها نشاط الحزب إلى سابق عهده.

ــ حقيقة حرمان الجيش من بسط سيادة الدولة على كامل أراضيها، سواء عبر الحدود المستباحة، وتنقّل “جيش” الحزب من وإلى سوريا، أو في تكبيل الجيش ومحاصرة حركته الإستراتيجية، ووضع نقاط حمراء أمام حركته داخل البلد. وإسقاط طائرة الشهيد الطيار سامر حنا نموذج واضح عن المقصود عن هذا العنوان.

ــ حقيقة وجود قواعد للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة تقع الأولى في قوسايا الحدودية مع سوريا، والثانية في منطقة السلطان يعقوب بالبقاع الغربي، والثالثة في منطقة الناعمة جنوب بيروت. وتعتبر من المحرمات على القوى الشرعية اللبنانية.

ــ حقيقة أنّ “حزب الله” يرعى الفساد ليسكت الفاسدون عن سلاحه، وليكوّنوا منظومة واحدة، قائمة على الإفساد والتواطؤ في الملفات الحيوية، مثل الكهرباء والبيئة وغيرها، وبالتالي، هل يجوز تبرئة الحزب من الكارثة التي وصلنا إليها، بذريعة كونه لم يشارك في السلطة مثل غيره؟

ــ إخضاع الإعلام في محطات كثيرة، وتحويله إلى ما يشبه الإعلام الحربي، خصوصاً في تغطية صفقة الباصات المكيفة لمقاتلي تنظيمي داعش والنصرة، في إطار ما سمي عملية “فجر الجرود”. ومنها الإستمرار في تجنّب الحديث عن سلاح “حزب الله” واعتبار ذلك من المحرّمات، بذريعة أنّ هذه القضية إقليمية ولا قِبـَل للبنان بها.

أخيراً

رضي كثيرون من اللبنانيين بالسكوت على تداعيات إفساد سلاح “حزب الله” للحياة الوطنية، لكن هذا الرضى لم يحمهم من الإنهيار ولا من الحصار، ولم يبعد عنهم كأس الإفلاس ولا يضمن لهم السلامة من الإنجرار إلى الحروب الإقليمية، ليتضح أنّ فاتورة التطبيع مع السلاح كانت وستبقى أعلى بكثير من المواجهة السياسية ببعدها الوطني الجامع.

ولهذا ولغيره، قامت الثورة، لتذكر بالحقائق الثابتة، ولتكسر جليد الصمت عن محرمات كانت ذات يوم قناعات جارية على كل شفة ولسان، وربما أو الأرجح أنّ هذه الثورة هي التي جاءت بقاسم سليماني مرتين خلال بضعة أسابيع إلى لبنان.

مواضيع ذات صلة

إسرائيل تضرب حيّ السّلّم للمرّة الأولى: هل تستعيده الدّولة؟

بقي حيّ السلّم على “العتبة”، كما وصفه عالم الاجتماع وضّاح شرارة ذات مرّة في كتابه “دولة حزب الله”. فلا هو خرج من مجتمع الأهل كليّاً…

أمن الحزب: حرب معلومات تُترجم باغتيالات (2/2)

لا يوجد رقم رسمي لمجموع شهداء الحزب في حرب تموز 2006، لكن بحسب إعلان نعي الشهداء بشكل متتالٍ فقد تجاوز عددهم 300 شهيد، واليوم بحسب…

أمن الحزب: ما هو الخرق الذي سهّل مقتل العاروري؟ (2/1)

سلسلة من الاغتيالات طالت قيادات من الحزب وحركة حماس منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) على وجه التحديد توّجت باغتيالين كبيرين. الأوّل اغتيال نائب رئيس…

النزوح السوريّ (3): النظام لا يريد أبناءه

12 سنة مرّت على وصول أوّل نازح سوري قادم من تلكلخ إلى عكار في لبنان. يومها اعتقدت الدولة اللبنانية أنّها أزمة أشهر، أو سنة كأبعد…