خلال أقل من أربعة أسابيع ستدخل البلاد مسار رفع الدعم الذي يوفّره مصرف لبنان لاستيراد السلع الأساسيّة (محروقات، طحين، أدوية…)، على أن تكون البداية من الخفض التدريجي في نسبة الدعم الذي يوفّره مصرف لبنان لاستيراد المحروقات وأصناف السلّة الغذائيّة المدعومة حاليّاً، وصولاً إلى مرحلة رفع الدعم التام عنها، على مدى الأشهر القليلة المقبلة.
إقرأ أيضاً: البطاقات التموينيّة: شروطها رضى صندوق النقد
ما تبيّن من الحسابات البسيطة حتى الآن، ووفقاً لأسعار المحروقات العالميّة حاليّاً، هو أنّ سعر قارورة الغاز في طريقه لتجاوز عتبة الـ 60 ألف ليرة لبنانيّة بعد الانتهاء من الرفع التدريجي للدعم والوصول إلى مرحلة رفع الدعم التام، علماً أنّ سعر القارورة الحالي يقارب مستوى الـ 16.200 ليرة. أما سعر تنكة البنزين، فمن المتوقّع أن يقارب 70 ألف ليرة بعد الوصول إلى مرحلة الرفع التام للدعم، فيما يبلغ سعر التنكة حاليّاً حوالي 24.600 ليرة. وفي ما يخصّ أسعار اشتراكات مولّدات الكهرباء، فمن المفترض أن تتضاعف لتصل إلى حدود المليون ليرة شهريّاً لاشتراك 10 أمبير، بحسب سعر تنكة المازوت المتوقّع بعد رفع الدعم. وعلى هذا، تقف البلاد اليوم على مشارف فيلم رعب موصوف، لتضع المجتمع بأسره على حافّة انفجار معيشي غير مسبوق، إذ يقدّر خبراء أنّ نسبة القابعين تحت خطّ الفقر سترتفع بعد رفع الدعم لتتجاوز 70%، في حين أنّ هذه النسبة تقف اليوم عند عتبة 50%.
خطة رفع الدعم شهدت تعديلات مثيرة للقلق، خصوصاً فيما يتعلّق بالبطاقة التموينيّة التي كان يفترض أن تخفّف من الآثار الاجتماعيّة لعمليّة رفع الدعم
مصادر مصرفيّة تؤكّد لـ”أساس” أنّ الخطّة الآن هي تقليص الدعم على مراحل طوال 6 أشهر، لئلا يؤدّي إلى إنفجار سعر الصرف بشكل خيالي خلال أيام قليلة، بانتقال المستوردين إلى طلب الدولارات اللازمة للاستيراد من السوق الموازية. ولذلك، من المتوقّع أن يصل السوق اللبناني إلى هذا المستوى من الأسعار خلال الفترة المقبلة لكن بشكل متدرّج، فيما سيشعر المواطنون تدريجيّاً بالتبعات المعيشيّة والاجتماعيّة الكارثيّة لهذا الارتفاع. كذلك سيرتفع سعر الصرف على مراحل، ما سيؤدّي حكماً إلى المزيد من الارتفاع في أسعار السلع الأساسيّة، بالإضافة إلى السلع المستوردة الأخرى.
وخطة رفع الدعم شهدت تعديلات مثيرة للقلق، خصوصاً فيما يتعلّق بالبطاقة التموينيّة التي كان يفترض أن تخفّف من الآثار الاجتماعيّة لعمليّة رفع الدعم. فمصرف لبنان اتجه سابقاً إلى العمل على منح البطاقة لجميع المواطنين من خلال المصارف في المرحلة الأولى، على أن يجري تقنين هذا الدعم لاحقاً بعد العمل من خلال الحكومة الجديدة على آليّات ومعايير موضوعيّة لتحديد العائلات الأكثر حاجة.
لكنّ فكرة البطاقة التموينيّة شهدت بعد اجتماع بعبدا الأخير تعديلات جوهريّة، إذ أصبح التوجّه يقضي بحصر توزيعها منذ البداية على العائلات الأكثر حاجة، وهو ما يطرح اليوم أسئلة كبيرة عن طريقة تحديد هذه الشريحة الاجتماعيّة في غياب أيّ معطيات إحصائيّة يمكن استخدامها لهذه الغاية، خصوصاً أنّ فكرة رفع الدعم بحدّ ذاتها ستحيل أعداداً ضخمة من الأسر اللبنانيّة إلى ما دون خط الفقر دفعة واحدة. وبالإضافة إلى ذلك، ثمّة خشية كبيرة اليوم من إساءة استعمال هذا الدعم، وتوجيهه لاحقاً وفقاً لقاعدة المحسوبيّات وشراء الولاءات السياسيّة، في حال تمّ حصره بشرائح معيّنة دون التفاهم على آليّة لتحديد العائلات الأكثر حاجة لهذا الدعم.
ستكون رحلة باتجاه المجهول، الفرق أنّه هناك محاولة جدّية لتأجيل المجهول ثلاثة أشهر أخرى ابتداء من رأس السنة الحالية
في كلّ الحالات، يبدو أنّ خطّة رفع الدعم ما زالت تنتظر البتّ بقرارات لم تتخذ حتّى اللحظة، ومنها مصير دعم استيراد الدواء، الذي ينتظر إنجاز تفاهم بين مصرف لبنان وبين وزارة الصحّة، لتحديد الأدوية القابلة للاستبدال بأدوية “جينيريك”، والمستلزمات الطبيّة التي يمكن تصنيفها في خانة الكماليّات، كالمستحضرات التجميليّة مثلاً، ليُرفع الدعم عن هذه السلع حصراً، في مقابل تحديد صيغة أخرى لدعم استيراد الأدوية الأساسيّة والحسّاسة التي لا يمكن أن يُستغنى عنها. أما في ما يتعلّق بملف استيراد الطحين، فما زال معلّقاً، ولم يتخذ قرار رفع الدعم عنه، على أن يُعمل لاحقاً على تسوية خاصّة به، كون كميّة الدولارات التي يستنزفها محدودة مقارنةً بالمحروقات والسلة الغذائيّة، بينما يتسم موضوع تسعيرة ربطة الخبز بحساسيّة خاصّة على المستوى المعيشي.
في مقابل إتجاه البلاد نحو هذه السيناريوهات الكارثيّة، يبدو أنّ أخطر ما في الأمر اليوم، هو عدم وجود حكومة كاملة الصلاحيّات لتتمكّن من توجيه الخطط المتعلّقة بهذه المسائل الحسّاسة، ومن اتخاذ القرارت التي تحدّ من تداعياتها الاجتماعيّة. بمعنى آخر، لا يوجد حتّى اللحظة أيّ تصوّر لكيفيّة إدارة مرحلة ما بعد الدعم، وخصوصاً أنّ ما بعده هو التضخّم الجنوني وانهيار سعر الصرف والمزيد من التآكل في القدرة الشرائيّة للأسر. كما لا يوجد ما يمكن الرهان عليه في المرحلة المقبلة لاستعادة التحويلات الخارجيّة للنظام المالي اللبناني، وهي المسألة الوحيدة الكفيلة باستعادة الاستقرار النقدي في لبنان.
ببساطة، ستكون رحلة باتجاه المجهول، الفرق أنّه هناك محاولة جدّية لتأجيل المجهول ثلاثة أشهر أخرى ابتداء من رأس السنة الحالية. هذا مع العلم أنّ هناك تعميمان لمصرف لبنان قد يساعدان في التخفيف من حدّة الانهيار، الأوّل يتعلق بزيادة رأسمال المصارف بنسبة 20 بالمائة، وهو ما تحاول المصارف الكبرى أن تؤمنه من خلال بيع أصول خارجية والمفاوضات حول هذا الأمر متقدمة ويمكن أن تحقق خلال أشهر قليلة ملياري دولار جديدة في السوق.