لم يعد فيروس كورونا جائحة ترعب الناس وتلزمهم منازلهم فحسب، وإنّما تحوّل إلى امتحان متواصل للجهاز المناعي لدى سكان المعمورة أجمعين. امتحان يخضعون له عند كلّ لحظة في تحرّكاتهم اليومية وتنقّلهم ولقائهم لأصدقائهم وأهلهم. الفيروس لا مفرّ منه، ومعيار الإفلات من شباكه لا علاقة له بقوة المصاب البدنية أو بهُزالة قوامه. فمن التقط العدوى ونجا، تكون مناعته قد أثبتت نجاعتها وقوّتها. أما الذي يُصاب بمضاعفاته ويموت، فتكون جينات أسلافه قد خانته وخذلته بتوريثه جهازاً مناعيّاً قاصراً أو يعاني من بلاء وراثة الأمراض المزمنة.
إقرأ أيضاً: كورونا يفاقم بؤس لبنان المحطّم
من يظنّ أنّه سيفلت من كورونا طالما أنّه موجود، فهو واهم، لأنّ القادر على الإفلات من نزلات البرد الشتوية أو فيروسات الإنفلونزا الموسمية، سيتمكّن من الإفلات من كورونا… وما إجراءات التباعد وعدم الاختلاط إلا محاولات تأخير العدوى إلى حين يضعف الفيروس أو ربما يختنق مع مرور الوقت. وما سياسة الإقفال وعزل بعض المناطق والقرى، التي تنتهجها الحكومة في لبنان، إلا عملية “لفلفة” لتغطية عجز المؤسسات الرسمية في تجهيز المستشفيات العامة كما يجب، أو عجز في مشهد إجبار تلك الخاصة على استقبال المصابين بمضاعفات الفيروس.
أهم ما وصل إليه داروين، بالفطنة، ومن خلال مقارنة مشاهداته وبلا أيّ مختبر أو تحاليل، ظاهرة “الانتخاب الطبيعي”. تلك الظاهرة التي تحكم آلية بقاء الكائنات “الأكثر تكيّفًا” على قيد الحياة، وقد أُطلق على هذه الظاهرة أيضاً مصطلح “البقاء للأصلح”
أبحر عالم الأحياء الإنكليزي تشارلز داروين في السفينة “بيغل” حول العالم في العام 1831، وعلى مدى ما يقارب الـ5 سنوات (كانون الأول 1831 – تشرين الأّول 1836) لجمع عيّنات من كائنات حيّة، كالنباتات والحيوانات والحشرات، وكتب أكثر من 1300 صفحة خلال هذه الرحلة. لكنه لم يكن يعلم أنّه بذلك قد فتح من خلال ما خطّه من كلمات في سطور، آفاقًا غير محدودة لما يسمّى اليوم “علم الأحياء التطوّريّ”.
أهم ما وصل إليه داروين، بالفطنة، ومن خلال مقارنة مشاهداته وبلا أيّ مختبر أو تحاليل، ظاهرة “الانتخاب الطبيعي”. تلك الظاهرة التي تحكم آلية بقاء الكائنات “الأكثر تكيّفًا” على قيد الحياة، وقد أُطلق على هذه الظاهرة أيضاً مصطلح “البقاء للأصلح”.
اكتشف داروين في حينه أنّ النباتات والحيوانات كلها نشأت تدريجياً من أسلافٍ مشتركة بواسطة الانتخاب الطبيعي، بانياً ذلك على مبدأ أنّ الكائنات تتنافس وتتصارع للحصول على ضروريات بقائها، ولهذا تكافح لدفع الأخطار التي تقضي عليها. نتيجة لذلك، تحيا الكائنات ذات الصفات الملائمة للبقاء ودفع الأخطار (التي تملك مناعة قوية في حالة كورونا)، بينما تموت تلك ذات الصفات غير الملائمة وغير القادرة على دفع الأخطار (ذوو الجهاز المناعي الضعيف)… ظنّ داروين، وكان على حقّ، أنّ جميع أنواع الكائنات قد استمرت بهذه الطريقة إلى يومنا هذا.
إذاً، فإنّ هذه النظرية تتحكّم بمصير الكائنات الحيّة كلها. إلاّ أنّ التطوّر الذي شهدته البشرية منذ نحو 100 عام إلى اليوم، جعلنا ننسى ماضينا. فالتطوّر التقاني والطفرة الصناعية ووفرة الطعام والمشرب والدواء… كلها حافظت على وجودنا، وأنستنا ما كنا عليه سابقاً، يوم كنّا نأوي إلى الكهوف لنختبىء ليلاً أو نلجأ إلى النار لدفع الأخطار في الطبيعة، أو نموت بحثاً عن مقوّمات الحياة من طعام وشراب. فيروس كورونا عاد ليذكّرنا بتاريخنا التطوّري ويعيد الاعتبار إلى الطبيعة الأم مع فشل المجتمعات البحثية، بكلّ ما وصلت إليه من حداثة، في اكتشاف أو تطوير لقاح أو دواء فعّال.
النازية أيديولوجية مبنية على العنصرية وتشدّد عرق بشري سامٍ ضدّ أعراق أخرى اعتبرتها أدنى منزلة منها. آمنت بإبادة الأعراق “الدنيا” من أجل الحفاظ على طهارتها، وأُطلق على عملية الإبادة اسم “المحرقة” أو الـ”هولوكوست”
تاريخياً، قد تُعدّ “النازية” مثالاً أحدث وأقرب إلى فهم كورونا من نظرية “الانتخاب الطبيعي”، من دون أن يعني ذلك براءة ذمة لها، أو تحييدها عن منزلة الجريمة التي ارتكبتها بحقّ البشرية جمعاء. فالأمر مجرّد إسقاط لتوصيف فيروس كورونا ليس إلاّ.
فالنازية أيديولوجية مبنية على العنصرية وتشدّد عرق بشري سامٍ ضدّ أعراق أخرى اعتبرتها أدنى منزلة منها. آمنت بإبادة الأعراق “الدنيا” من أجل الحفاظ على طهارتها، وأُطلق على عملية الإبادة اسم “المحرقة” أو الـ”هولوكوست”.
بذور الـ”هولوكوست” بدأت مع أفكار الطبيب الألماني ألفريد بلويتز حول ما أسماه “تحسين النسل البشري” عن طريق التغييرات الاجتماعية، بهدف خلق مجتمع أكثر ذكاءً وإنتاجية، للحدّ مما أسماه “المعاناة الإنسانية”. كما انتشرت النظرية النازية مع صدور كتاب “الرخصة للقضاء على الأحياء الذين لا يستحقّون الحياة”، بقلم الكاتب والقانوني كارل بايندنك والطبيب النفسي ألفريد هوج (1920) اللذين تناولا فكرة القيام بتعجيل القتل الرحيم للمصابين بالأمراض المستعصية. كلّ ما سبق ذكره في النازية، برّر فلسفة التخلّص من المعوّقين وأصحاب العلل والتشوّهات والأجناس الدنيا في التصنيف العرقي الذي وضعته النازية.
وإلى حين اكتشاف اللقاح أو تطوير الدواء، ربما يبقى كورونا الذي أوجدته الطبيعة، مطابقاً لفكرة “الانتخاب الدارويني” أو بمثابة Filtrage حقير لصالح “الأكثر تكيّفاً” للأسف. ربما يكون “هولوكوست” فيروسي بلا قلب وبلا يرحم، خرج من مختبر عن قصد أو غير قصد، ليقوم بإبادة كلّ عليل منّا بمرض مزمن أو كل مصاب بخلل جيني لم يقترفه ولا ذنب له به، مفسحاً في المجال بالعيش أمام المتعافين، من أجل بناء ما تسميه النازية الـ”لايبنسراوم” (Lebensraum) أو “الحيّز المعيشي”… لكن من انتصر على هتلر وعلى النازية في الأمس، قادر اليوم على التظافر إنسانياً للانتصار على كورونا… ولتنهض البشرية من جديد.
كلّ هذا يصحّ في حالة “التساوي” المطلق بين أجهزة المناعة والبشر، لكنّنا اليوم نعيش في ظلّ تدخّل الطبّ والقدرة المالية والمكانة والنفوذ الاجتماعي والسياسي، في التخفيف من غلواء “الانتخاب الطبيعي”، وفي وضع معايير أخرى في صدارة أسباب البقاء، منها تطوّر الأنظمة الصحيّة في دول أو مناطق أكثر من أخرى، والقدرة المالية على شراء أجهزة تنفّس أو أدوية أو في الوصول إلى الرعاية الصحيّة في الوقت المناسب… وهي شروط لا تتوافر في كل العالم الثالث ومنها لبنان…