لم يرتبط اسم مدينة بأحرف النداء مثلما ارتبط اسم بيروت… أنت حين تغنيها أو تكتبها أو ترسمها أو تصورها، سيلازمك حرف النداء كما لو أنها أبعد ممّا يطاله الصوت، على الرغم من أنك معجون بأصواتها، ومدمن على أزقتها، وشاهد على ما أحدثته الحروب من تقطّع في ذاكرتها وتشوه في عمارتها وقضم لبحرها وندوب في الروح عصية على الشفاء.
إقرأ أيضاً: تحية إلى بيروت (2): مدينة في مرفأ
لماذا ننادي بيروت؟ بيروت يا بيروت؛ يا بحر بيروت؛ ياهوا بيروت؛ يا مينا الحبايب؛ يا حرش بيروت؛ يا ضيعانك يا بيروت. لماذا ننادي كياناً نعيش في قلبه أو هكذا نظن؟ ربما الجواب فيما كتبه وغناه العتيق المعتق عمر الزعني عندما أطلق على مدينته أجمل ما قيل فيها: “بيروت زهرة في غير أوانها”. ولأنها نبتت في غير موسمها، فهي فريدة ومتفردة لا تشبه أي مدينة أُخرى، ولا حتى تشبه نفسها، لأنها دائماً في قيد التأسيس والاستيلاد. كل المدن تولد وتكبر وتشيخ وربما تموت إلّا بيروت، فهي تولد مراراً وتموت مراراً، كأنها وتر مشدود بين الضدين أو بين النقيضين، وهي دائماً تبني أنقاضها على أنقاضها. هي طاحونة كل الدروب ومرفأ كل السفن، وهي الساحة، والمختبر الذي كثيراً ما ابتدع معادلات حادة في تناقضاتها؛ تناقضات تثمر ريادة وحداثة حيناً، وحرائق أحياناً أُخرى.
ننادي بيروت اليوم لنستعيد صوتنا ونتمسك بفكرة المدينة المتمردة كي لا يأتي الخراب على معنى بيروت بعدما أتى على جسدها مستبيحاً بحرها وساحاتها ومرفأها ومطارها ومداخلها ومخارجها.. ننادي بيروت اليوم كي نبقى في قيد الحلم في مشرق عزّت فيه الأحلام
من الغريب فعلاً أن بيروت التي عاشها جدي لا يعرفها أبي، وبيروت التى عزفها أبي على كمانه بالكاد أعرفها أنا. جميع المدن تطرأ عليها متغيرات على إيقاع بطيء إلّا بيروت. عليك أن تلهث خلفها لتعيد اكتشافها، إذ ما إن تتعرف إلى ملامحها حتى تلبس ملامح أُخرى؛ ما إن تظن أنك قبضت على ماهيتها حتى تفلت من بين يديك؛ ما إن يرعبك سكوت مدوّ حتى ينشطر وجهك في الزجاج المتكسر على أرصفة المدينة وسطوحها وثنايا بيوتاتها القديمة وأبراجها التي ظن مقاولوها أنهم بمنأى عن الانفجار.
ما الذي تبقّى من جسد المدينة وروحها كي تظل حافزاً للنداء؟ ما الذي يدفعنا بعد هذا الخراب البغيض إلى أن نصرّ على مناداتها؟ ما الذي يدفع صبايا وشباناً بعمر الربيع إلى أن يتصدوا لمحاولات قتلها شاهرين حبهم وشغفهم لمسح غبار الموت عن وجهها ونزع شظايا المعدن المتكسر من جسدها؟ ما هو سر اندفاعنا إلى ساحة الجريمة والتأكد من عودة النبض بعد جميع محاولات اغتيالها وترويضها وتدجينها، أسوة بمعظم العواصم العربية الموزعة بين ممانعة مزعومة متمرسة في الاستبداد والقمع والقتل، ومنظومة وضيعة مستقيلة من دورها؟
ننادي بيروت اليوم لنستعيد صوتنا ونتمسك بفكرة المدينة المتمردة كي لا يأتي الخراب على معنى بيروت بعدما أتى على جسدها مستبيحاً بحرها وساحاتها ومرفأها ومطارها ومداخلها ومخارجها.. ننادي بيروت اليوم كي نبقى في قيد الحلم في مشرق عزّت فيه الأحلام.
II
وين الناس
ما إن غادرت حانتي في تلك الليلة حتى تراءى لي وجه يعقوب الشدراوي وقد أضاءت شيبته الفضية كف يده المتكئة على خده. كان الشدراوي يقطن في الدور الرابع في المبنى الملاصق لحانة ناصر الصغيرة.
يعقوب بشو صافن بهالليل؟
يسارع يعقوب إلى إطلاق شتيمته المحببة: “إخوات المنتاكة قاطعين الكهربا كيف بدي إطلع عالرابع وأنا مقطوع نفسي! يا قعبور وين الناااااس؟”
“حبيبي يعقوب سيارتي هونيك، إمشي نعمل كزدورة لبين ما تجي الكهربا.”
مشينا وقد أثقلت الرطوبة خطانا، وسرعان ما ربتت يد على كتفي المعطوب لأسمع صوته الأجش:
– يا أحمد مش إنت اللي غنيتلي شوارع المدينة لكل الناس؟
– لا زكريا أحمد، ولو يا محمد؟ طبعاً أنا.
ويطلق محمد العبد الله صرخة تشق فضاء شارع الحمرا: وين النااااااس؟
قبل انفجار مرفأ بيروت بأيام ترجّتني أمي أن آخذها إلى مقهى الروضة؛ أمي التي تجاوزت التسعين لم يعد في قدرتها التنقل في المدينة التي تحبها، لذلك كانت تستمتع في مقهى الروضة
نصل ثلاثتنا إلى السيارة لنجوب بها شوارع بدت مبانيها كشواهد القبور. نصل إلى كورنيش البحر أو رصيف البحر، مثلما يحلو لمحمد أن يسميه، وأقترح أن نشرب ما يزيل غمّة الروح. يفضل يعقوب البقاء في السيارة مستسلماً لبرودة مكيفها، بينما عينا محمد سارحتان في بحر كان بالأمس هنا؛ أبتاع ما تيسر من المشروبات “الروحانية” وأدنو من السيارة لأتفاجأ بأنها خالية تماماً، لا محمداً ولا يعقوب ولا حتى رواد البحر، أقف كبوصلة تعطلت شارتها وأهمس في سرّي: وين الناس؟ أصل إلى البيت، وبعد قليل من التشاغل البليد تصمت مولدات الكهرباء تباعاً، ويصطبغ فضاء الشارع بلون دخان المازوت.. دخان أكاد أسمع صوته؛ أغمض عيني على نوم عقيم ويضج السؤال: وين الناس؟!
III
أصوات من بيروت
أبي الملقب بمحمود الرشيدي هو أول عازف كمان في بيروت، لكنه لم يشجعني قط على الفن. كانت صحته قد تدهورت في مقتبل العمر لأنه كان يصل نهار الوظيفة بليل العمل في الملاهي، عازفاً خلف كبار المطربات والمطربين وصغارهم. عشت في بيت فيه أب مريض على مدار الساعة، وأم مرهقة، وصوت حوافر الخيل عند الفجر. كان هذا الإيقاع الأول في حياتي حين يقود سائس الخيل خيوله ويمضي صوب حرش الصنوبر القريب من بيتنا. كان صوت حوافرها المتناوب يخفف من حدة سعال أبي الطالع من صدره المختنق، فالليل كان موعداً دائماً مع السعال. كنت أربط دائماً بين الفجر ووقع حوافر الخيل، والرابط كان تدريباً على الموت الذي يعلن نفسه بكل صفاقة من خلال السعال وتدريبات الحياة التي يتشكل إيقاعها من خلال صوت حوافر الخيل.
IV
فقش الموج
قبل انفجار مرفأ بيروت بأيام ترجّتني أمي أن آخذها إلى مقهى الروضة؛ أمي التي تجاوزت التسعين لم يعد في قدرتها التنقل في المدينة التي تحبها، لذلك كانت تستمتع في مقهى الروضة.
– يا إمي ما في حدا بالروضة، أصلاً مسكر بسبب كورونا.
لم تستسغ أمي جوابي وقالت إنه لا بأس إن قصدت الروضة حتى لو كانت لوحدها؛
عالقليلة يا إمي بِتْوَنّس بصوت فقش الموج
انفجر المرفأ وأقفرت المدينة وفقش الموج لا يسمعه أحد. هذه الأغنية لأمي وأبي وحوافر الخيل وفقش الموج:
ومنسأل يا بيروت
وينك دخلك شو صار
ليش حصانك مربوط
قومي نكفي المشوار
إنت بمرمى إيدينا
ومِنْنَادي يا بيروت
يا بيوتك تبقى من أحلى بيوت
يا شطوطك وينيي يا بيروت
يا خير الصيادين صنوبر حولو محبين
والهيئة صرلو سنين على قمرك ناوي الحوت
منقلك يا بيروت يا إم وأحلى ست
طير الحرية إن طار على كتفك بدو يحط
ومِنْنَادي يا بيروت قوليلي وين الشط
مش سامع فقش الموج مين اللي شال وحط
ومنسأل يا بيروت.
* هذا النص هو مجموعة من نصوص في ملف نشرته مجلة “الدراسات الفلسطينية” التي تصدر في بيروت ويرأس تحريرها الروائي الياس خوري. وقد حمل الملف عنوان “بيروت” ويضمّ 29 نصاً كتبها مجموعة من المثقفين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب “كرسائل حبّ على ضفاف الأمل”، كما جاء في مقدمة الملف.
موقع “أساس” ينشر هذه النصوص تباعاً، تحيةً منه لبيروت، ولحبّ بيروت في قلوب القيّمين على مجلة “الدراسات الفلسطينية”.