هو أنطوان سيدريان، لبناني أرمني، موجود في أرمينيا منذ 18 شهراً، أي قبل اندلاح الحرب الأخيرة في إقليم قرّه باغ. مثله كثيرون من أرمن لبنانيين موجودين في أرمينيا، التحقوا بالجيش الأرمني، لدعم حشود المقاومة المسانِدة للجيش الأرميني في قرّه باغ، في ما يبدو أنّه معادلة ذهبية أرمنية: “جيش وشعب أرمني ومقاومة”.
انتشر فيديو لأنطوان على نطاق واسع في لبنان، وتبيّن أنّه “ليس وحدَه”، بل مثله كثيرون، “لكن بأعداد محدودة”، بحسب رئيس كتلة “الطاشناق” في مجلس النواب اللبناني هاغوب بقرادونيان: “معظمهم من اللبنانيين الذين لديهم عائلات وأقارب في أرمينيا”، يقول في حديث لـ”أساس”.
إقرأ أيضاً: الحروب تنتقل من اليونان إلى أرمينيا وأذربيجان: إنّه الغاز
برأيه أنّ “كلّ أرمني اليوم في أرمينيا، يعتبر نفسه عسكرياً في جيش قرّه باغ، وهذه هي المقاومة الشعبية التي تربّينا عليها”. يكنّه ينفي أيّ دور تنظيمي أو وجود قرار رسمي في حزب الطاشناق للمشاركة العسكرية في ذلك النزاع: “نحن لدينا دور في لبنان وغير لبنان كجبهة مساندة للدعم من خارج أرمينيا والدفاع عن الوجود الأرمني في الانتشار. لكن في حال قرّر أحدهم السفر للدعم العسكري فلا نستطيع منعه. فهم يقرّرون مصيرهم”.
هكذا إذاً، بعد الشبان الشيعة الذين توجّهوا إلى سوريا والعراق واليمن وغيرها، وبعد عدد ضئيل من الشبان السنّة الذين أغرتهم المشاركة في نصرة الثورة السورية، ها هو شاب مسيحيّ من الطائفة الأرمنية، يقرّر الذهاب للدفاع عن أرمينيا، فهل يفتح الباب على “هجرة” أرمنية؟
كلّ أرمني في لبنان والعالم، يعتبر الهجوم الأذربيجاني التركي هجوماً على كلّ الشعب الأرمني من أرمينيا وفي كلّ بلاد الانتشار. والمشروع الطوراني التركي القديم يعود بلباسٍ جديد
فيديو سيدريان في لباسه العسكري، وهو يعلن انضمامه للجيش الأرميني في صراعه ضدّ أذربيجان، قال فيه إنّ “النصر حليف الأرمن في أرمينيا وفي كلّ الشتات”. وانطلق بعده الجدل في لبنان، وتوالت الأسئلة حول موقف اللبنانيين الأرمن من الصراع الدائر، وما إن كانت هناك رغبة شعبية أرمنية في المشاركة بالنزاع المسلّح.
ندخل برج حمّود، ونحاول البحث عن مظاهر الدعم. نجد أنترانيك كيشيشيان، وهو شاب ثلاثيني، يفتخر بالفيديو، يحيّي سيدريان على موقفه، ويؤكد أنّه يشاركه الشعور نفسه والحماسة نفسها: “لكن الوضع لا يزال تحت السيطرة في قرّه باغ”، وأرمينيا “لم تنادِ أبناءها بعد للانتساب إلى الجيش في صراعه ضدّ أذربيجان والعثمانيين”، كما يصف الأتراك: “وهذا ما يبرّر بقائي في لبنان حتّى الساعة. لكن عندما تدعو الحاجة، سأسافر إلى أرمينيا للدفاع عن أرضي اليوم وقبل الغد”. ويؤكد كيشيشان لـ”أساس” أنّ الأرمن يرفضون اليوم أن يعيد التاريخ نفسه: “فالشعب الأرمني ما عاد مستضعفاً كما قبل، ولن تستطيع تركيا إبادته من جديد. اليوم كلّ الأرمن في العالم وفي لبنان أيضاً مستعدّون للدفاع عن أرضهم بجميع الوسائل الممكنة، وبما فيها المواجهة المسلّحة”.
الأمين العام لحزب الطاشناق، بقرادونيان? ينقل حماسة الشارع اللبناني الأرمني لمساندة أهلهم: “كلّ أرمني في لبنان والعالم، يعتبر الهجوم الأذربيجاني التركي هجوماً على كلّ الشعب الأرمني من أرمينيا وفي كلّ بلاد الانتشار. والمشروع الطوراني التركي القديم يعود بلباسٍ جديد. ولذلك، هذا الصراع جوهري وأساسي لكلّ أرمني في العالم وفي لبنان أيضاً”. ويؤكد بقرادونيان على وجود تعاطف كبير وقلق كبير أيضاً، واستعداد أرمن لبنان لدعم الشعب الأرمني بكلّ الطرق: “نعني هنا الدعم السياسي، والمعنوي والإعلامي، كون الدعم الاقتصادي غير ممكن بسبب الأوضاع الاقتصادية اللبنانية الصعبة. والدعم العسكري غير وارد، وذلك لعدم حاجة أرمينيا لذلك، فهناك أعداد كبير من الشبان المقاتلين في وهم قدّها وقدود”.
لكن ماذا يقول القانون اللبناني في هذه الحالة؟
لا يلحظ القانون اللبناني مشاركة اللبناني من أصول أخرى أو حامل جنسية بلد آخر بالنزاعات المسلحة حول العالم. لكن للقانون الدولي مقاربته الخاصة. إذ تؤكّد الباحثة والخبيرة في القانون وأستاذة القانون الدولي العام ماري غنطوس أنّ القانون الدولي يمنح الحرية لأيّ شخص بمساندة أيّ حركة في العالم، وليس بالضرورة أن يحمل جنسية البلد الذي تحصل داخله الصراعات.
وتعطي غنطوس في حديثها لـ”أساس” مثالاً على ذلك: “في الحرب العقائدية ضدّ الجنرال فرانكو، وضدّ الفاشية في إسبانيا. جاء المناصرون للحركة اليسارية العابرة للقارات من أميركا ومن فرنسا ومن روسيا ومن السوفيات وغيرها”.
هل سيعبر المزيد من المتحمّسين الأرمن مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت متّجهين نحو قرّه باغ، لنصرة دولتهم الأم في الأيام المقبلة، أم أنّ هذه المبادرات ستبقى محدودة ومرهونة بمسار الأحداث خارج الحدود؟
وتشدّد غنطوس على حرية اختيار الأشخاص للمشاركة بالنزاعات المسلحة حول العالم: “حتّى يمكنهم أن يكونوا مرتزقة ويقاتلون مقابل أموال”. لكن عندما يكون العمل الذي يقومون به يتعارض مع حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، تستطيع دولتهم ودول أخرى محاكمتهم بجرائم حرب مثلاً في حال أظهرت التحقيقات ذلك. وهذا ما حصل مع بعض الفرنسيين والبريطانيين الذين شاركوا بالحرب السورية إلى جانب تنظيم داعش ضد النظام السوري، ما يعني أنّ حدود الحرية هذه تنتهي عند حدود احترام القانون الدولي الإنساني، أي عدم ارتكاب الإبادات الجماعية والمجازر بحق المدنيين وضرب الأماكن المدنية والمرافق العامة والجسور… إلخ. فيمكن لمن يريد الانضمام إلى أيّ جيش حول العالم، شرط ألا ينضمّ إلى جيش العدوّ، وأن يكون راضياً وليس مجبراً، وأن تكون الدولة راضية بانتمائه هذا، وأن يكون السلوك في هذا الصراع قانونياً”.
في العودة إلى بقرادونيان، يحذّر في خضمّ الحديث عن الصراع الأرميني الأذربيجاني من “الطموح العثماني المتوغل في المنطقة، فـ70 % من سلاح أذربيجان اليوم من إسرائيل، وتركيا رغم التنديد المستمر بالعلاقات مع إسرائيل هي أول دولة إسلامية اعترفت بإسرائيل سنة 1947، وهناك اتفاقية عسكرية بينها وبين إسرائيل، فمثلّث الشرّ هو تركيا – أذربيجان – إسرائيل”. برأي الأمين العام لحزب الطاشناق هذا المثلّث يشكّل خطراً كبيراً ليس على الأرمن فقط، بل على كلّ المنطقة: “كلنا نعرف الحلم التركي القديم للسلطنة العثمانية. ونحن لا نتخوّف من هذا التوغل فقط لأننا أرمن، لكن لأنّنا خضنا التجربة، ونعرف كيف يتوغّل العثمانيون في المناطق عبر المساعدات الإنسانية، وتنتهي تجاربهم بالقتل والمجازر والإبادات الجماعية”.
فهل سيعبر المزيد من المتحمّسين الأرمن مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت متّجهين نحو قرّه باغ، لنصرة دولتهم الأم في الأيام المقبلة، أم أنّ هذه المبادرات ستبقى محدودة ومرهونة بمسار الأحداث خارج الحدود؟ هذا سؤال ينتظر الإجابة من 150 ألف أرمني لبناني، وجدوا أنفسهم فجأة على خطّ التماس الأذربيجاني الأرمني، وفي مواجهة “العثمانيين”.