ثمّة عاقلٌ في هذه الجمهورية يُدعى نبيه بري. نختلف معه حول كثير قد ينقص. ونتفق معه على قليل لا ينضب. لكننا نُجمع بلا تردّد على أهليته المستدامة، وعقله الوارف، وهامشه المستفيض. وإذا كان لا بدّ من قول يُقال الآن، فالأصحّ أن يُوجّه له وحده دون سواه، ليس باعتباره رئيسًا لسلطة تشريعية في بلاد يغمرها الخراب، بل لكونه والدًا وجدًّا ومغامرًا جاء من سهول التبغ وأزقة الحرمان وصار حجر زاوية في معادلة لا تنكسر.
تناهى إلى مسامعنا يا دولة الرئيس أنّك همستَ ذات يوم في أذن من يسمع: لو كان الشعب اللبناني حيًّا لسحلنا جميعًا في الطرقات. وقد صدّقنا يومذاك أنّنا قادرون وفاعلون. لكننا حين جرّبنا، اكتشفنا أنّ قدرتكم على التشبّث تفوق قدرتنا على السحل، وأنّ عاصفتنا وإن عصفت ستظلّ زوبعة في فنجان، وأنّ صوتنا الهادر مهما ارتفع سيرتطم بذاك الجدار السميك الذي بُني بشقّ الأنفس ليكون درعًا لنظام لا ينفجر ولا يستكين، بل يبقى هكذا، كواحد من أكثر الأنظمة هشاشة وضعفًا، وأشدّها تجذّرًا على الإطلاق.
إقرأ أيضاً: نبيه برّي آخر فرسان الممانعة: “أبتقطعش”
هذا اعتراف كامل بعجزنا، نحن البائسون اليائسون، ليس عن استكمال النضال الوطني الذي لا بدّ أن يدوم حتى تطلع علينا الشمس، بل عن معرفة الطريقة الأنجع لخلع النظام برمّته. ولذلك، ارتأينا أن نستجير بك ونلجأ إليك، لنسألك وأنت في شتاء العمر: ماذا بقي من كرمنا الأخضر؟ أيّ بلد هو ذاك الذي ستتركه لأولادك وأحفادك وكوكبة المحرومين من شواطئ الناقورة إلى أطلال وادي خالد؟ وأيّ رسالة هي تلك التي ستحملها، وأيّ دور، وأيّ شجاعة، وأيّ كلام تقوله وأنتَ في عزّ حكمة العمر والتجربة؟
نعيش في فقاعة يا دولة الرئيس. ثمة من حبسنا جميعًا في زجاجة أوهامه. يريد أن يتجه بنا شرقًا، ونحن نكاد لا نجد مواطئ قدم بين الجثث التي نثرها من دمشق إلى صنعاء
نعيش في مزرعة مكتملة الأوصاف يا دولة الرئيس. نعيش من قلّة الموت. نفتش كلّ يوم عن كرامتنا المسحوقة. عن أحلامنا التي ساوت الأرض. عن بصيص أمل لا يظهر في نفق دامس الظلام. عن أبسط مقوّمات الحياة الطبيعية. عن كهرباء، وماء، ودولة تسدّ الرمق. تعبنا. ثم استحال التعب يأسًا وكأسًا نتجرّعه كلّ صباح، وكأنّنا في صدمة مستدامة التراكم، منذ ما قبل الارتفاع الجنوني للدولار إلى ما بعد الانفجار شبه النووي الذي وصل إلى مشارف قبرص بعد أن هشّم نصف بيروت.
نعيش في فقاعة يا دولة الرئيس. ثمة من حبسنا جميعًا في زجاجة أوهامه. يريد أن يتجه بنا شرقًا، ونحن نكاد لا نجد مواطئ قدم بين الجثث التي نثرها من دمشق إلى صنعاء، بينما كان يقتحم عواصم العرب وحواضرهم، ويقاتل باسمنا الكوكب برمّته. ثم يترك لنا أن نختار نموذجًا من نماذج فائقة الضياء، وما علينا حينذاك إلا أن نحتار بين لبنان الذي يشبه كاراكاس أو بيونغ يانغ.
هي خطوة أخيرة تؤدّي عبرها قسطك للعلى. إفعلها الآن بلا تردّد. وافتح لنا كوّة صغيرة ونحن على أبواب الخراب الكبير
لسنا معنيين بأيّ نقاش عبثي يا دولة الرئيس، ولسنا نبحث خلف ترّهات أو اشتباكات لا تُسمن ولا تُغني من جوع. ولا نطالبك بما لا طاقة لك على احتماله. نريدك فقط أن تُسجّل موقفًا في ذمّة التاريخ، وأن تُساهم في رسم خارطة طريق مكتملة الأوصاف، ليس كردّ تكتيكي على صوت من هنا أو دعوة من هناك، بل كمشروع وطني عابر للصغائر والمماحكات، وكفكرة تأسيسية لجمهورية جديدة تُلاقي تطلّعات اللبنانيين وفق أكثر الممكن وأفضل المتاح، ومن أكثر منك قدرة على فعل ذلك؟
هي خطوة أخيرة تؤدّي عبرها قسطك للعلى. إفعلها الآن بلا تردّد. وافتح لنا كوّة صغيرة ونحن على أبواب الخراب الكبير.