مرّة أخرى يكشف “حزب لله” بلسان أمينه العام حسن نصرالله أنّ لبنان ليس سوى ورقة إيرانية، وأنّ مستقبل اللبنانيين وأولادهم آخر همّ من همومه. حسناً، إذا لم يكن لبنان ورقة إيرانية، كما قال، وأنّ “الجمهورية الإسلامية” لا تتدخل في شؤونه الداخلية، من يرسل أسلحة وصواريخ إلى لبنان؟ ومن يموّل ميليشيا مذهبية؟ هل تفعل إيران ذلك لوجه الله، ليس إلّا، بصفة كونها جمعية خيرية لا يهمّها سوى الصالح العام ونشر الديموقراطية؟
لعلّ آخر ما يمكن وصف إيران به أنّها جمعية خيرية. إيران بلد يحسب بدقة كلّ خطوة يقدم عليها، وكلّ استثمار في أيّ من الميليشيات التي يشرف عليها في هذا البلد العربي وغير العربي أو ذاك.
إقرأ أيضاً: فرنسا تكتشف لبنان “الحزب”
لم يكن الخطاب الذي ألقاه نصرالله أخيراً سوى تعبير عن رغبة واضحة في رفض المبادرة الفرنسية تجاه لبنان، وهي مبادرة تؤمّن له الحصول على مساعدات في ظلّ توافر شروط معيّنة لا مفرّ من تحقيقها. ليس الحديث عن إصرار لدى “حزب الله” على المشاركة في الحكومة الجديدة سوى نسف للمبادرة الفرنسية، وللأساس الذي قامت عليه. مهما حاول تجميل الرفض وتغطيته بمبرّرات مضحكة من نوع أنّ رؤساء الحكومة السابقين الأربعة (سعد الحريري وفؤاد السنيورة وتمام سلام ونجيب ميقاتي) كانوا يشكّلون وحدهم حكومة مصطفى أديب، ذلك ليس سوى جانب من قضيّة في غاية التعقيد. اسم هذه القضيّة، الأزمة اللبنانية التي حوّلت اللبنانيين إلى فقراء وعاطلين عن العمل بعدما دمّر تفجير الميناء جزءاً من بيروت.
من أين جاء نصرالله بطلب مشاركة “حزب الله” بحكومة لبنانية جديدة، وكأنّه لا يعرف أنّ حكومة تضمّ أعضاء من “حزب الله” مرفوضة من المجتمع الدولي وعربياً. لا يمكن لمثل هذه الحكومة سوى تسريع انتقال لبنان إلى فنزويلا أخرى… أي إلى مزيد من البؤس والإفلاس والتعتير والانهيار لكلّ ما بقي من مؤسسات الدولة
هناك إصرار ليس بعده إصرار لدى حسن نصرالله على تصوير إيران بأنّها جمعية خيرية من جهة، واستغباء اللبنانيين إلى أبعد حدود من جهة أخرى.
بالنسبة إلى الأمين العام لـ”حزب الله”، قُتل رفيق الحريري ورفاقه ولبنانيون آخرون من سمير قصير… إلى محمّد شطح، في حوادث سير. بالنسبة إلى حسن نصرالله، لم تُدن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان سليم عيّاش القيادي في “حزب الله” في قضيّة تفجير موكب رفيق الحريري. لم يعترف أصلاً بالمحكمة الدولية التي لولاها، لكان التحقيق اللبناني في التفجير بقي عند “أبو عدس”…. كما سيحدث في نتائج التحقيق اللبناني في تفجير مرفأ بيروت.
لم يستطع نصرالله في خطابه تقديم أيّ حجة مقنعة لموقف “حزب الله” من المبادرة التي طرحها الرئيس إيمانويل ماكرون. ليس كافياً الترحيب بالمبادرة الفرنسية لتبرير رفضها، وتذكير اللبنانيين بغزوة بيروت والجبل في أيار 2008، ولتفسير رفض حكومة لا وجود فيها لـ”حزب الله”. في النهاية، إنّ تدخّل الرؤساء سعد الحريري وفؤاد السنيورة وتمام سلام ونجيب ميقاتي في تشكيل حكومة مصطفى أديب، بقي في إطار ما طرحه ماكرون الذي كان واضحاً كلّ الوضوح منذ البداية. شدّد الرئيس الفرنسي على تشكيل ما سمّاه “حكومة مهمّة” تكون مصغّرة، وتضمّ اختصاصيين ليس فيها أيّ حزبي. من أين جاء نصرالله بطلب مشاركة “حزب الله” بحكومة لبنانية جديدة، وكأنّه لا يعرف أنّ حكومة تضمّ أعضاء من “حزب الله” مرفوضة من المجتمع الدولي وعربياً. لا يمكن لمثل هذه الحكومة سوى تسريع انتقال لبنان إلى فنزويلا أخرى… أي إلى مزيد من البؤس والإفلاس والتعتير والانهيار لكلّ ما بقي من مؤسسات الدولة.
كان الخطاب الأخير لحسن نصرالله خطاب المغالطات. لم يعرف من أين عليه أن يبدأ وكيف عليه أن ينتهي، بل عرف كيف ينتهي عندما شنّ هجوماً شديد اللهجة على مملكة البحرين بسبب توقيعها معاهدة سلام مع إسرائيل هي ودولة الإمارات العربية المتحدة. يرفض أخذ العلم بوجود واقع جديد في المنطقة كلّها، خصوصاً في ظلّ المشروع التوسّعي الإيراني القائم على إثارة الغرائز المذهبية، وعلى التعالي على كلّ دولة عربيّة. هل نسي الأمين العام لـ”حزب الله” أنّ إيران تحتلّ ثلاث جزر إماراتية، هي طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، منذ العام 1971… أي منذ أيّام الشاه، وترفض الدخول في أيّ مفاوضات من أيّ نوع مع الإمارات؟
هل يستطيع الأمين العام لـ”حزب الله”، الذي يشدّد على أنّ حزبه ليس فاسداً، أن يشرح كيف غطّى سلاحه أحد عشر عاماً من استيلاء “التيّار العوني” على وزارة الطاقة كي يصبح البلد من دون كهرباء، وكي يزداد الدين العام 50 مليار دولار؟
جميل أن يبدي حسن نصرالله كلّ هذا الحرص على أموال المودعين في المصارف اللبنانية وعلى صلاحيات رئيس الجمهورية لدى تشكيل الحكومات في لبنان. ما كان يمكن أن يكون أجمل من ذلك لو حدّد للبنانيين كيف سيحلّ مشكلة انهيار النظام المصرفي اللبناني، وكيف يمكن أن يعيد رئيس الجمهورية إلى ارض الواقع، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بتجاهل ميشال عون للتحذير الذي تلقاه من أحد الأجهزة الأمنية عن مواد خطرة في عنابر ميناء بيروت قبل نحو ثلاثة أسابيع من حصول الكارثة.
كان اطرف ما في خطاب حسن نصرالله، المخصّص للردّ على الرئيس الفرنسي، الإصرار على حماية لبنان عبر مشاركة حزبه في الحكومة. تكون حماية لبنان، من وجهة نظره، برفض الرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي، ورفض الخصخصة، ورفض أيّ بيع لأملاك الدولة. مثل هذا الكلام قابل للنقاش بين اختصاصيين، لكنّه لا يصلح لمزايدات سياسية لا هدف لها غير أخذ البلد إلى الدوران في حلقة مقفلة مع ما يعنيه ذلك من تعميق للأزمة.
بعض الواقعية ضروري بين حين وآخر في بلد مثل لبنان ليس فيه من يريد أخذ العلم بأنّ من بين الأمور التي تطرّق إليها الرئيس الفرنسي في زيارتيه للبنان موضوع التعليم والكهرباء. هل يستطيع الأمين العام لـ”حزب الله”، الذي يشدّد على أنّ حزبه ليس فاسداً، أن يشرح كيف غطّى سلاحه أحد عشر عاماً من استيلاء “التيّار العوني” على وزارة الطاقة كي يصبح البلد من دون كهرباء، وكي يزداد الدين العام 50 مليار دولار؟
سيتبيّن يوماً أنّ حسن نصرالله ما زال يعيش في الماضي، ماضي ما قبل الرابع من آب 2020. بغضّ النظر عن التناقضات التي وقع فيها إيمانويل ماكرون في أثناء زيارتيه للبنان ومؤتمره الصحافي، يظلّ أنّ مبادرته تمثّل طرحاً متقدّماً في حال كان مطلوباً وقف الانهيار اللبناني. كلّ ما تبقى يدخل في تبرير استخدام لبنان ورقة إيرانية وتغطية الأسباب الحقيقية وراء تفجير ميناء بيروت… وهي أسباب ستتكشّف عاجلاً أم آجلاً.