أكّدت المؤكد مآلات المبادرة الفرنسية في نسختها الأولى، لجهة أنّ المسألة الحكومية اللبنانية ليست مسألة لبنانية بحت، بل إقليمية ودولية بالدرجة الأولى. لكنّ ذلك لن يمرّ دون انعكاسات مباشرة على المشهد السياسي الداخلي لناحية أنّ تطوّرات المبادرة قد أعادت ترسيم حدود موازين القوى بين الأطراف السياسية والجماعات الطائفية داخل النظام السياسي. وهو ما دلّت عليه كلمة الرئيس الفرنسي مساء الأحد لاسيّما عندما تحدّت عن “اتفاق الطائف”، فاعتبر “أنّنا اليوم نعمل ببنية، هي اتفاق الطائف الذي أعطى صلاحيات للسُنّة، لكن لسخرية القدر يستفيد منه الشيعة حالياً”!
إقرأ أيضاً: عون أمام زوّاره: “أنا متعَب نفسياً”.. والحزب “فجّر” مبادرة فرنسا
بهذا المعنى، فإنّ المبادرة الفرنسية وإن لم تُفضِ إلى تشكيل حكومة، إلا أنّها كانت بمثابة قراءة مجهرية للخريطة السياسية الداخلية وعبارة عن قياس دقيق لحجم القوى السياسية ووزنها في اللعبة السياسية، وذلك في ضوء المعطيات الداخلية التي عرفت منعطفاً جديداً بعد انفجار المرفأ في 4 آب، بعدما كانت انتفاضة 17 تشرين 2019 قد شكّلت محطّة مفصلية نوعية منذ تسوية 2016. أي أنّ الرضوض التي أصابت القوى السياسية في مشروعيتها الشعبية منذ 17 تشرين 2019، ثمّ وبشكل أكثر كثافة منذ 4 آب 2020، ظهرت بوضوح خلال مسارات تأليف الحكومة وفق المبادرة الفرنسية، وقد بدا جلياً أنّ طرفين أساسيين أصابهما الإرباك والوهن.
باكراً جداً اعتبر العهد أنّ المبادرة الفرنسية ستفكّ الحصار عن لبنان، وقصده المضمر أنّها ستخرجه من عزلته الداخلية والخارجية، لكنّ أمله هذا سرعان ما خاب
أمّا الطرف الأول فهو “المؤسسة السياسية” السنّية المتمثّلة بنادي رؤساء الحكومات الأربعة، لكن خصوصاً الرئيس سعد الحريري الذي أقدم على خطوة خاسرة لم تظهر تأرجح حضوره الداخلي وحسب، بل أيضاً تأرجح علاقاته الدولية. إذ وبعد أن كان الظنّ أنّه نسّق خطوته، لجهة “مساعدة الرئيس مصطفى أديب على إيجاد مخرج بتسمية وزير مالية مستقل من الطائفة الشيعية، يختاره هو” مع الفرنسيين، أتى كلام الرئيس ماكرون الأحد عن أنّ “سعد الحريري أخطأ عندما أضاف معياراً طائفياً في توزيع الوزارات”.
وأمّا الطرف الثاني فهو “المؤسسة السياسية” المسيحية، ولا سيّما عهد الرئيس ميشال عون، الذي أتت مآلات المبادرة الفرنسية لتؤكّد ما كان مؤكّداً لجهة وقوع العهد في أسر تحالفه مع “حزب الله”، يُعطيه ما يَشاء ولا يَأخذ منه ما يريد. لقد كانت المبادرة الفرنسية بمثابة حبل نجاة للعهد تخوّله بالحدّ الأدنى أن يبقي رأسه فوق المياه بالنظر إلى صعوبه انتشاله كاملاً من الغرق بعد الأثقال الكبيرة التي حمّلته إياها انتفاضة 17 تشرين 2019، وقد ضاعفتها تداعيات انفجار المرفأ في 4 آب 2020 خصوصاً لجهة النقمة المسيحية على العهد، وقد أصاب التفجير الهائل الجزء الشرقي من بيروت ذات الغالبية المسيحية.
باكراً جداً اعتبر العهد أنّ المبادرة الفرنسية ستفكّ الحصار عن لبنان، وقصده المضمر أنّها ستخرجه من عزلته الداخلية والخارجية، لكنّ أمله هذا سرعان ما خاب. ولا شكّ أنّه استشعر بدايات خيبته تلك مذ انتشرت صور اسماعيل هنية محمولاً على أكتاف المسلّحين في مخيم عين الحلوة في 6 أيلول، بعد يومين على مغادرة ماكرون بيروت عقب زيارته الثانية لها خلال أقلّ من شهر واحد. لقد كانت زيارة هنية بيروت، آتياً من تركيا، واستقبال حسن نصرالله له، بمثابة رسالة جديدة من “حزب الله” إلى “العهد القوي” مفادها أنّ الأولوية الإقليمية للحزب تتقدّم على الأولوية الداخلية لحلفائه، وفي مقدّمهم الرئيس عون الذي سيتحمّل أكثر من سواه عبء الفراغ الحكومي. أولاً لأنّ عدم تشكيل الحكومة سيبقي عهده تحت الضغط الشعبي الداخلي بفعل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، والضغط الخارجي كذلك. إذ ها هو الرئيس الفرنسي يحمّل “بشكل خاص الرئيس عون مسؤولية إعادة إطلاق المبادرة”. وثانياً لأنّ عدم تشكيل الحكومة للأسباب المعروفة، خصوصاً لجهة إصرار الثنائي “حزب الله” – “حركة أمل” على تسمية وزير شيعي لحقيبة المال، تظهر عجز “الرئيس القوي” عن الحكم وفرض الأولويات الوطنية على حلفائه قبل خصومه. وهو ما عبّر عنه بيانه في 22 أيلول، الذي جاء بعد يومين من عظة البطريرك بشارة الراعي في 20 أيلول التي رفض خلالها تخصيص حقيبة وزارية لطائفة بعينها.
البطريرك الراعي لا زال مثابراً على مبادرته عن “الحياد الناشط”. فهل يجتمع المسيحيون تحت عباءة مبادرته؟ وماذا سيفعل السُنّة المرتبكون بشأن “الحياد الناشط”؟
غير أنّ التطوّرات الحكومية الأخيرة تتجاوز في دلالاتها وضع العهد نفسه إلى المشهد السياسي المسيحي بكلّيته، ذلك المشهد الحافل بحراكات وانقلابات كثيرة منذ انتفاضة تشرين 2019، خصوصاً منذ فاجعة المرفأ. إذ إنّ هذه التطوّرات الثلاثة، أي انتفاضة تشرين، وانفجار 4 آب، وفشل المبادرة الفرنسية في نسختها الأولى، كلّها بدأت تدفع باتجاه الأسئلة التالية: ماذا بعد السقوط السياسي لعهد ميشال عون؟ وهل إنّ سقوط العهد سياسياً يعني سقوط مشروعه السياسي أم أنّه سيدفعه ومعه “التيار الوطني الحرّ” إلى تعديل تموضعه السياسي؟ ومن هي القوى التي تستطيع أن تشكّل رافعة مسيحية بديلة؟ لاسيّما أنّ القوى المسيحية الأخرى وخصوصاً “القوات اللبنانية”، و”الكتائب اللبنانية” لم يظهر حتّى الآن أنّها قادرة أو جاهزة على فعل ذلك.
كلّها أسئلة لم تتّضح أجوبتها بصورة كاملة بعد، لكن الأكيد أنّ الوسط السياسي المسيحي على تشرذمه، بات شديد الانتباه إلى التطورّات من حوله، إذ إنّ مفاوضات تشكيل الحكومة المجهضة عكست إرادة الثنائي الشيعي في تكريس نفوذه داخل النظام وكثّفت هذا المسعى، وذلك على حساب الطرف الأضعف، أي المسيحيين. هذا على الرغم من تحالف رئيس الجمهورية مع حزب الله. وفي السياق نفسه ليست مصادفة عودة الحديث عن “المثالثة” ورفض القوى المسيحية لها.
لكن هل يدفع ذلك كلّه إلى تصلّب مسيحي، ولا سيما من جانب “التيار الوطني الحرّ”، بإزاء “حزب الله”؟ خصوصاً بعد تعثّر تشكيل الحكومة، وتشديد ماكرون لهجته ضد الحزب يوم الأحد، وقبله الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز الذي ربط بين انفجار المرفأ و”هيمنة حزب الله الإرهابي التابع لإيران على اتخاذ القرار في لبنان بقوة السلاح”، داعياً إلى “تجريد هذا الحزب الإرهابي من السلاح”. وهذان موقفان يعبّران عن استمرار الضغط الدولي والعربي على الحزب. لكن ما دام الأخير قد استطاع فرض شروطه على الفرنسيين حتّى الآن، فإنّ التيار الذي بنى كلّ مشروعه وفق تقديره لموازين القوى الدولية والإقليمية، سيبلع الموسى هذه المرّة أيضاً، ويتغاضى عن “إساءة” الحزب في موضوع الحكومة. وها هو وفد من التيار يزور سفارة النظام السوري في اليرزة في 25 أيلول حيث تمّ التأكيد على “متانة العلاقة الاستراتيجية بين دمشق والتيار”!
البطريرك الراعي لا زال مثابراً على مبادرته عن “الحياد الناشط”. فهل يجتمع المسيحيون تحت عباءة مبادرته؟ وماذا سيفعل السُنّة المرتبكون بشأن “الحياد الناشط”؟
كلها أسئلة لا أجوبة عليها حتى الآن.