يُحكى في الأساطير أنّ غولاً تسلّط على بلدةٍ، فصار يهاجم أهلها ويأكلهم ويستبيح بيوتهم، إلى أن اتفقوا على تقديم أضحية منهم كلّ يوم، ظناً منهم أنّ هذا الاتفاق سيوفّر للغول الشبع والقناعة بما منحوه له طوعاً.
مرّت الأيام وكان الغول يقوى أكثر فأكثر، وكلّما ألقمه الأهالي واحداً منهم كان يزداد شرهاً وطمعاً.. ويقول هل من مزيد؟
لم تستطع “التضحية الذاتية” للأهالي أن تضمن لهم الاستقرار المظلّلَ بالموت، بل تحوّلت هذه الأعطيات إلى مصدر تقويةٍ للغول، فخرج عن السيطرة، وقرّر إفناء البلدة، وشنّ غارات يومية التهم فيها الأهالي، الذين اعتقدوا خاطئين أنّ للغول أماناً، فلم يعدّوا العدة لمقاومته ووقف عدوانه عليهم.
إقرأ أيضاً: الملك سلمان وما لا يجرؤ اللبنانيون على قوله
تشبه هذه القصة حالنا في لبنان، وفي مجمل الدول التي انتشر فيها “الغول” الإيراني، فاعتقد أهلها أنّه يمكن التعايش وبناء الشراكة مع شريحة تحمل هوية بلدانها وتحمل السلاح والولاء لنظام الولي الفقيه في الوقت نفسه، لتبدأ سلسلة التنازلات بالسياسة والترغيب أولاً، ثم بالترهيب والعنف والإكراه لاحقاً، من دون أن تتخلّى عن بناء قوتها الخاصة داخل الدولة وعن تفتيت النسيج الوطني وتغليب منطق تحالف الأقليات.
دأب الحريري على التساهل بالصلاحيات والتخلّي عن المكتسبات وتقديم كامل التسهيلات لصالح الحزب و”صديقه جبران”
هذا المسار بدأ في لبنان منذ لحظة أسّس الحرس الثوري الإيراني “حزب الله” في ثمانينات القرن الماضي، فانصبّ جهد الحزب على اكتساب الشرعية التدريجية في كلّ جولة مع العدو الإسرائيلي وفي كلّ معركة داخلية لإخضاع القوى السياسية لمشروعه الذي لم يتوقف عن قضم الدولة بمؤسساتها الدستورية والأمنية والإدارية، فاستفاد من حقبة طويلة تلبّس فيها جسم الدولة وتغلغل في مفاصلها، بينما كانت أسلحته تتضخم وصواريخه تتضاعف، وأدواره الخارجية تتمدّد، مهدّدة هوية لبنان وطبيعته الإنسانية والسياسية، وعلاقاته بالمحيط والعالم.
يُثقل “حزب الله” البلد بمنظومة أمنية مسيطِرة وبطبقة سياسية عقد معها تفاهمات أساسها السلاح مقابل الفساد، وهذا بالتحديد ما ضاعف السرقات ونهب المال العام بشكلٍ قياسي في السنوات العشر الأخيرة، وتحديداً بعد إتمام الصفقة الرئاسية وإيصال ميشال عون إلى القصر الجمهوري.
حصد عون من تفاهم مار مخايل شراكة كاملة مع “حزب الله” في السلطة، لم تقتصر على استئثاره برئاسة الجمهورية، بل إنه وتياره وصهره جبران باسيل، انخرطوا في عملية الاستحواذ على مواقع الدولة، فسيطروا في القضاء والخارجية والتربية والدفاع والاقتصاد والبيئة.. وتمكّنوا من فرض وجودهم في لعبة السلطة والنفوذ على حساب الطرف الأضعف في المعادلة.
اعتقد سعد الحريري أنه في قلب هذه الصفقات، لكنّ ما جرى معه كان عكس ما جرى مع عون وباسيل. فقد دأب الحريري على التساهل بالصلاحيات والتخلّي عن المكتسبات وتقديم كامل التسهيلات لصالح الحزب و”صديقه جبران”، وبدل أن تكون التفاهمات محطة لتحسين الأحوال، إذا بنا على مدى السنوات تتحوّل مناطقنا إلى مجاهل مقفرة تسرح فيها الفوضى ويسودها الإنهاك والإهمال.
في الأزمة الحكومية الراهنة، بادر الحريري إلى التطوّع بإعلان تأييده أن يتولّى “شيعي مستقل” وزارة المال متنكّراً لتصريحه الرافض أن تكون هذه الوزارة حكراً على طائفة. جاء تراجع الحريري في توقيتٍ شديد الحساسية، عندما كان الشرخ بين الرئيس عون والتيار الوطني الحرّ من جهة، وبين “حزب الله” من جهة ثانية، قد بلغ مبلغه، والثنائي في وضعية حصار سياسي من المرجعيات والأحزاب اللبنانية المختلفة، فضلاً عن انفجار عين قانا الكبير.
ورد في بعض التسريبات أنّ تنازل الحريري مرتبط بتحريك أموال مؤتمر سيدر، لكنّ هذا التلفيق سرعان ما سقط بعد الموقف الصارم السعودي الصارم الذي أعلنه الملك سلمان بن عبد العزيز ودعا فيه إلى نزع سلاح “حزب الله” كشرط لتحقيق الأمن والاستقرار والرخاء
يروّج المؤيدون لتراجع الحريري الجديد أنّه استجابة لموازين القوى وللتهديد الذي وجهه الثنائي الشيعي بارتكاب 7 أيار آخر، والواقع أنّ البلد خاضع فعلاً لقوة عسكرية قاهرة، لها جناح سياسي، تمارس تسلّطها بالسلاح والعنف، وتستفيد من وجودها في الدولة لتجنّب عواقب ممارساتها القاتلة، وهذا ما يحول دون اعتبارها قوة احتلال بالمعنى القانوني الدولي. لهذا، لم يعد للتهديد بالسلاح قيمة، وبات إعلان “حزب الله” كقوة احتلال أمراً ضرورياً، لإيقاف تمترسه بالدولة واتخاذه البلد رهينة، ولتحميله مسؤولية أفعاله، وليتصرّف اللبنانيون والعالم على أساس أنّ البلد واقع تحت الاحتلال، وأنّ الواجب إطلاق المقاومة السياسية للتحرير.
ورد في بعض التسريبات أنّ تنازل الحريري مرتبط بتحريك أموال مؤتمر سيدر، لكنّ هذا التلفيق سرعان ما سقط بعد الموقف الصارم السعودي الصارم الذي أعلنه الملك سلمان بن عبد العزيز ودعا فيه إلى نزع سلاح “حزب الله” كشرط لتحقيق الأمن والاستقرار والرخاء، وهذه رسالة واضحة لجميع هواة المناورة في الوقت الضائع، بأنّ مشاركة الحزب، بأيّ شكلٍ من الأشكال، في أيّ حكومة سيحولّها إلى حكومة عاجزة حتى عن تصريف الأعمال، ولن تحصل على أي مساعدة مادية عربية أو أميركية.
يريد الحريري إبقاء الحال على ما هو عليه، ومنع تغيير المعادلات، ويرفض الالتفات إلى المتغيّرات الدولية الإقليمية التي تحاصر إيران وأحزابها، لتبرير سلوكه، لأنّ أيّ تغيير سيطيح بهذه الطبقة الفاسدة كلّها، لذلك تراه متربّصاً عند زوايا الأزمات، متوثّباً لإنقاذ “أعدقائه” الشركاء، متوهماً أنّ بإمكانه تضليل القوى الكبرى بمناورات تشبه تسويقه للتنازلات على أنّها “تضحيات”، في الوقت الذي فقد فيه هذا الأسلوب صلاحيته ولم يعد نافعاً.
ندرك تماماً أنّنا في زمن انحطاط هائل، لكن لكلّ احتلال مقاومة، ولكلّ انحطاطٍ نخبة تنهض في مواجهته، والصراع متواصل، والأيام دول، وموجة الاستقواء بالسلاح وبيع الحقوق بمزاد الصفقات، نسفها تفجير مرفأ بيروت وأحكام عدالة لا تموت.