وعدنا الأمين العام لحزب الله بعد اغتيال قاسم سليماني بإخراج أميركا من المنطقة، وإذ به يرتضيها كطرف محايد ووسيط في اتفاق الإطار حول ترسيم الحدود، وهذا ليس تعاملاً سافرًا مع الكيان الإسرائيلي وحسب، بل مصافحة مباشرة للأصيل والوكيل، ولو كان لنا أن نستطرد أكثر، لقلنا إنّ حزب الله يُقدّم أوراق اعتماده تحت عنوان البراغماتية السياسية، بعد أن صدّع رؤوسنا بسمفونيات المبادئ الكبرى، وبفلسطين الأبدية السرمدية التي تمتدّ قطعًا من البحر إلى النهر.
إقرأ أيضاً: نبيه بري.. الأرنب الأخير
هكذا هو حزب الله. يحضر السوق، فيبيع ويشتري متى شعر بأن مصالحه ومصالح المحور الذي ينتمي إليه تتطلّب الذهاب نحو خيارات مماثلة. فعل ذلك في قضية عامر الفاخوي، ذاك العميل الذي قدّمه حزب الله لدونالد ترامب على طبق من ذهب. ثم أخبرنا أنه لم يكن يدري ولم يكن يعلم. وها هو اليوم يتقاسم أضلاع التفاوض في مثلّث مع أميركا وإسرائيل، تحت عنوان ترسيم الحدود، وهو المطلب السيادي الذي طالما طالبنا به منذ العام 2005، لكنه لم يُقابلنا مذاك إلا بالتخوين والتهديد، من اتهامنا المستدام بالتبعية والعمالة وصولاً إلى دعوتنا لتحسس الرقاب.
الثابت حتى الآن أن حزب الله بدأ يتعرى تمامًا من خطابه التقليدي ومن سياساته المعتمدة، حيث ظهر بصورة المفجّر المباشر للمبادرة الفرنسية، رغمًا عن غالبية القوى السياسية والأكثرية الكاثرة من الشعب اللبناني
صحيحٌ أنّ ما فعله حزب الله بهذه الخطوة يخدم المصلحة اللبنانية العليا، لكن الأصح أنه جاء وفق توقيته ومصالحه. فبعد إسقاطه للمبادرة الفرنسية التي شكّلت الأمل الوحيد لخروج لبنان من عنق الزجاجة، سارع إلى مغازلة اميركا وإلى فتح ثغرة هائلة في العلاقة مع اسرائيل، وهذا بحدّ ذاته كان ممنوعًا على كلّ الحكومات، وعلى الدولة اللبنانية برمّتها، وقد ساهم إلى حدّ كبير في عزلة لبنان، وفي تعميق أزمته السياسية والاقتصادية على النحو الذي وصلنا إليه. لكن ذلك كله لا يعني حزب الله، بقدر ما يعنيه أن يُحسّن شروط إيران ومكانتها التفاوضية في المرحلة المقبلة، ولا يمكن تفسير هذه الخطوة خارج هذا الإطار.
الثابت حتى الآن أنّ حزب الله بدأ يتعرّى تمامًا من خطابه التقليدي ومن سياساته المعتمدة، حيث ظهر بصورة المفجّر المباشر للمبادرة الفرنسية، رغمًا عن غالبية القوى السياسية والأكثرية الكاثرة من الشعب اللبناني. وهذا ما أشار إليه الرئيس الفرنسي بكلّ وضوح، ثم ما لبث أن ظهر بصورة المفاوض الرشيق الذي لا يجد أيّ حرج في الجلوس جنبًا إلى جنب على الطاولة التي تضمّ الأميركي والاسرائيلي.
هذه جمهورية حزب الله يا فخامة الرئيس. متى شاء يُعلن الحرب، ومتى أراد يعقد السلام. أما أنتم فشهود زور، تنشغلون بمعمل طائفي لتوليد الكهرباء في سلعاتا، أو بتحصين حقوق المسيحيين وحضورهم في حراسة الأحراش
هذه سقطة جديدة تُضاف إلى تدحرج موقعه في لبنان والمنطقة، منذ أحداث السابع من أيار، وحتى انغماسه الكامل في قتل الشعب السوري، وفي اجتياح عواصم العرب وحواضرهم وتمزيق مجتمعاتهم. وإذا كان لا بدّ من تسمية الأشياء بأسمائها، فلا بأس من القول إنّ حزب الله لم ينتهِ كفكرة جذّابة وحسب، بل انتهى أيضًا كشريك وطني قد نتقاسم معه التوافق أو الاختلاف، وصار مجرّد منصة متقدّمة لتنفيذ الأجندة الإيرانية في لبنان وفي المنطقة.
لكن بعيدًا من كلّ هذا، ثمّة سؤال لا بدّ من طرحه على أولئك الذين صدعوا رؤوسنا بصلاحيات رئيس الجمهورية. أين هو ميشال عون؟ هل لا يزال رئيسًا فعليًا للجمهورية اللبنانية؟ أم استحال باش كاتبًا في جمهورية حزب الله؟ وهل يُعقل أنّ اتفاقًا تاريخيًا بهذا الحجم يكون رئيس الجمهورية خارج إطاره المباشر؟ هذه اهانة كبرى. لكنهم يصمتون جميعًا صمت القبور، وأحدٌ منهم لم ينبس حتى الآن ببنت شفة.
هذه جمهورية حزب الله يا فخامة الرئيس. متى شاء يُعلن الحرب، ومتى أراد يعقد السلام. أما أنتم فشهود زور، تنشغلون بمعمل طائفي لتوليد الكهرباء في سلعاتا، أو بتحصين حقوق المسيحيين وحضورهم في حراسة الأحراش، وتتركون له أن يمسك لبنان وقراره السياسي من ناصيته، غير آبه بأيّ شيء على الإطلاق.