تعدّ المصارف عاموداً فقرياً لأيّ اقتصاد في العالم، من خلالها تتمّ عمليات الاستيراد والتصدير ونقل الأموال وتسيير الأعمال كافة. لا يمكن تخيّل استمرار المجتمعات من دون المصارف أبداً، لكن يبدو أنّ الولايات المتحدة عازمة على فعل العكس تماماً بعقوباتها على “حزب الله”، منتقلة رويداً رويداً، من عتبة استهداف الأفراد والهيئات إلى سقف “معاقبة مجتمعات” بأسرها، مطلقة العنان لدى المراقب لتخيّل سيناريوهات فرزٍ وربما تقسيمٍ طائفي ومناطقيّ، وكذلك إقفال مصارف وحسابات، وعمليات صرف جماعية قد تطال خُمس العاملين في القطاع المصرفي، ومعاقبة آلاف المودعين، من خلال مشروع القانون الذي طرحه النائب الأميركي الجمهوري جو ويلسون الأسبوع الفائت وكنّا أوّل من كشف عن تفاصيله في مقال نشر في “أساس ميديا” في 3 تشرين الأوّل 2020 بعنوان: قانون أميركي لمعاقبة جنوب لبنان و”مصارف صديقة” للحزب.
إقرأ أيضاً: العقوبات تُحرج المصارف والقضاء: دقّت ساعة الحساب
القانون لم يبصر النور بعد، وربما طريقه ما زال طويلاً. إلاّ أن تفاصيله واصطلاحاته الجديدة حول “المصارف الصديقة” لـ”حزب الله” تميّزه بصبغة “المدى البعيد” تفرض علينا توقّع السيناريو الأسوأ. ولهذا، كان لا بدّ من تشريح خارطة انتشار المصارف في المناطق اللبنانية، وتحديداً مناطق نفوذ “حزب الله”. وكذلك الاستناد إلى الإحصاءات المتوفرة لدى “جمعية مصارف لبنان” والبناء عليها حول ما قد يطال القطاع المصرفي كما هو اليوم… حتّى يبدّل الله أمراً كان مفعولا.
عقوبات على المصارف كتلك، تعني إما إقفال المصرف كاملاً أو حجب فروعه في المناطق المذكورة، وبالتالي فإن المصارف المهددة قد تشهد عمليات صرف موظفين بالجملة إن وقعت عليها العقوبات أو إذا هي اختارت أن تنسحب حرصاً على سلامتها وخوفاً من سيناريو “جمال ترست بنك”
تقول الأرقام إنّ 42% من المصارف المحلية لها موطىء قدم ضمن مناطق نفوذ “حزب الله”، في جنوب لبنان وبقاعه الشمالي والضاحية الجنوبية (27 من أصل 63 مصرفاً). هذه المناطق فيها 17% من الفروع العاملة في لبنان، أي 186 فرعاً من أصل 1094 فرعاً منتشراً على كامل الأراضي اللبنانية.
أما انتشار هذه الفروع فهو على الشكل التالي: 14 فرعاً في الضاحية الجنوبية الخاضعة لنفوذ الحزب، 57 فرعاً في البقاع الشمالي (وليس الأوسط والغربي)، و155 فرعاً في جنوب لبنان، من ضمنه مدينة صيدا، فيما الرقم الأخير هو الأعلى وربما هذا يدلّ صراحة إلى سبب تركيز المشرّع الأميركي في حديثه على جنوب لبنان وتسميته بالإسم كمنطقة نفوذ خالصة لـ”حزب الله”.
في ترتيب هذه المصارف بحسب عدد الفروع، فإن “فرنسبنك” يحل في المركز الأول بـ16 فرعاً، ثم يليه “بنك عودة” و”سوسيتيه جنرال” في المركز الثاني بـ14 فرعاً أيضاً، ويحلّ “بنك بيبلوس” ثالثاً بـ12 فرعاً، ثم “الاعتماد اللبناني” رابعاً بـ11 فرعاً، و”البنك اللبناني الفرنسي” خامساً بـ9 فروع، وسادساً “بنك البحر المتوسط” بـ8 فروع.
نلاحظ أنّ هذا الترتيب قد يتغيّر كلياً في حال احتسبنا عدد المصارف المنتشرة في مناطق نفوذ الحزب، نسبة لعدد فروع كل مصرف على حدة. وبذلك يهبط “فرنسبنك” من المركز الأول إلى المركز السادس بنسبة 21.30% من عدد فروعه المنتشرة في مناطق نفوذ الحزب الثلاث، و”فرست ناشونال بنك” في المركز الخامس بـ25%، ثم “فينيسيا بنك” في المركز الرابع بـ28%، وفي المركز الثالث “بنك الكويت الوطني” بـ33%، و”بنك مياب” بـ45% في المركز الثاني، أما المركز الأول فيحتله “بنك صادرات إيران” مسجلاً 80% من عدد فروعه ضمن مناطق نفوذ الحزب، وهذا الاختلاف سببه حجم كل مصرف وعدد فروعه. فكلما قلّ عدد الفروع ارتفعت النسبة، فيما العكس صحيح.
أمّا إذا انحصرت العقوبات في جنوب لبنان، بحسبما يفترض المشرّع الأميركي، فإن “فرنسبنك” سيبقى في المركز الأول بـ10 فروع، و”بنك عودة” في المركز الثاني بـ9 فروع، و”بنك بيبلوس” في المركز الثالث بـ8 فروع، أما “بنك البحر المتوسط” و”بنك الاعتماد اللبناني” فسيحلان في المركز الرابع بـ7 فروع لكلٍ منهما، و”بنك لبنان والمهجر” و”بنك اللبناني الفرنسي” و”بنك مياب” و”سوسيتيه جنرال” فستحلّ كلها في المركز الرابع بـ6 فروع لكل منها.
في المبدأ، عقوبات على المصارف كتلك، تعني إما إقفال المصرف كاملاً أو حجب فروعه في المناطق المذكورة، وبالتالي فإن المصارف المهددة قد تشهد عمليات صرف موظفين بالجملة إن وقعت عليها العقوبات أو إذا هي اختارت أن تنسحب حرصاً على سلامتها وخوفاً من سيناريو “جمال ترست بنك” الذي كان قرار إقفاله بـ”شطبة قلم”، بمثابة الجرافة التي قد تعبّد الطريق لذلك. خصوصاً إذا علمنا أنّ قرابة 60% من فروع بنك الجمال الـ27 كانت ضمن مناطق نفوذ الحزب (10 في الجنوب، 3 في الضاحية الجنوبية، و3 في البقاع الشمالي). وبالتالي لا شيء يقف في طريق الإدارة الاميركية، في حال قرّرت اليوم، استباقاً لصدور قانون Hezbollah Money Laundering Prevention Act of 2020 المذكور، من تطبيق قوانين مثل “أوفاك” أو “قيصر” أو حتى “ماغنيتسكي”، تراها الإدارة قد تفي بالغرض المطلوب!
وعليه، يمكن القول إنّ تهديد هذه المصارف بالعقوبات كافٍ جداً، لإطلاق العنان لموجة صرف شاسعة ستطال قرابة 17% من عدد الموظفين العاملين في القطاع المصرفي، أي بحدود خُمس الموظفين. بمعنى أدق وأكثر تفصيلاً، فإذا قسّمنا عدد العاملين الاجمالي في كل مصرف على عدد الفروع، نحصل على معدل وسطي لعدد العاملين في كل فرع، وهذه الأرقام مضروبة بعدد فروع كل مصرف في مناطق نفوذ الحزب، تعطينا عدد العاملين المهدّدين بفقدان فرص عملهم في كلّ مصرف على حدة.
هذا الأمر سيرمي بالمسؤولية بشكل رئيسي على عاتق حاكمية مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاص ولجنة الرقابة على المصارف، من أجل التنبّه لخطوات كهذه وارد ظهورها في أي لحظة، وعليها التنبّه لها جيداً حرصاً على سلامة موظفي المصارف
الحسبة الاجمالية لموظفي المصارف المهددة، تشي بأنّ 4176 موظفاً من أصل 27146 موظفاً في المصارف الـ27، قد يمسون في الشارع، في حال أبصر هذا القانون النور. لا بل إنّ الخوف يكمن في أن تستغلّ هذه المصارف تلك الحجة مستقبلاً، أو ربما من الآن، من أجل تبرير حملات الصرف التعسفي التي قد تطلقها، أكان جرّاء الأزمة الاقتصادية أو لدواعي الدمج التي يبدو أنّها لن تبصر النور بسهولة ومثلما كان مرسوماً، خصوصاً مع الأحاديث التي تصدر من أوساط مصرف لبنان حول تخطّي المصارف لجزء يسير من الأزمة، بعد أن تمكّنت من إطفاء خسائرها بالتعاون مع مصرف لبنان من خلال استبدال “لولاراتها” بالليرة اللبنانية من أجل تسديد الودائع على 3900 ليرة لبنانية.
وبلا شكّ، فإنّ هذا الأمر سيرمي بالمسؤولية بشكل رئيسي على عاتق حاكمية مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاص ولجنة الرقابة على المصارف، من أجل التنبّه لخطوات كهذه وارد ظهورها في أي لحظة، وعليها التنبّه لها جيداً حرصاً على سلامة موظفي المصارف. كما أنّ هذا الواقع سيفرض نفسه على المودعين الأبرياء أيضاً ضمن هذه المناطق، وسيضطرها إلى خسارة حساباتها في المصارف، وتراجع أعمالها، وإنهاء قدرتها على التحكم بحاجياتها، مثل قبض الرواتب وتحصيل القروض والدفع السندات واستعمال البطاقات البلاستيكية.
عدد المودعين المتضررين من عقوبات كهذه ليس معروفاً بشكل دقيق لكنّه يفوق عشرات الآلاف، ما قد يحوّل مناطق نفوذ “حزب الله” المذكورة بساكنيها إلى “جزر نائية”. نامت وصحت فوجدت الزمن عاد بها فجأة إلى “حقبة المقايضة”.
* ملاحظة: قد يكون الخطأ في الأرقام وارداً لكنه هامشياً، وذلك بسبب تخلّف المصارف عن تزويد الجمعية بأعداد الموظفين وأعداد الفروع والاحصاءات المحدثة للعام 2020، خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية وثورة 17 تشرين.