جان عزيز لـ “أساس”(2): لنتمسّك بـ”الطائف”

مدة القراءة 9 د


في الجزء الثاني من الحوار مع السياسي والإعلامي جان عزيز نقترب أكثر من اللحظة السياسية الراهنة. لكنّ الراهن هنا هو راهن تاريخي، بمعنى أنّه جزء من مسار سياسي يمتد في أقلّ تقدير منذ العام 2005، عام الانقلابات والخيارات اللبنانية الكبرى.

إقرأ أيضاً: جان عزيز لـ “أساس”: “الحياد” مشروع عون منذ 2007

عزيز وجه من وجوه هذا المسار، يؤرّخه ويحيّنه، يراجعه ويقيّمه، على ضوء اللحظة الحاضرة. فمن “تفاهم مار مخايل” إلى رئاسة ميشال عون، إلى المطالبة بتغيير “اتفاق الطائف” وتعديله، كلّها محطّات مترابطة ترابطاً وثيقاً ومتوتّراً. عن كلّ ذلك تحدّث عزيز في الجزء الثاني من حوار “أساس” معه، وفي الآتي نصّه…

يرى عزيز أنّ تفاهم مار مخايل يحتاج إلى إعادة تجديد وفقاً لفلسفته الأساسية القائمة على تلاقي ميشال عون وحسن نصرالله، وكلّ منهما آتٍ من موقع مختلف، لا بل نقيض للآخر. يقول: “اليوم بعد 15 عاماً على هذا التفاهم لا يجوز بحقّ حسن نصرالله وميشال عون أن يذكر التاريخ أنّ أحدهما كان مخدوعاً به، بمعنى أنّ مسار هذا التفاهم أدّى إلى سقوط مفهوم التلاقي الوسطي”.

تفاهم مار مخايل يحتاج إلى إعادة تجديد وفقاً لفلسفته الأساسية القائمة على تلاقي ميشال عون وحسن نصرالله، وكلّ منهما آتٍ من موقع مختلف لا بل نقيض للآخر

بالنسبة إليه “يجب إعادة تجديد هذا التفاهم لنقول إنه مثلما أتى ميشال عون من القوات اللبنانية أيام بشير الجميّل، ومن قانون استعادة السيادة اللبنانية ومحاسبة سوريا والـ 1559 إلى تفاهم مار مخايل، فإنّ حزب الله سيأتي إلى المقاومة اللبنانية التي هدفها ومشروعها الحفاظ على لبنان. بمعنى أنّ حزب الله يبقى حزباً سياسياً لديه مشروعه السياسي. لكن يجب أن نفصل وعلى كلّ المستويات بين المقاومة الوطنية لحزب الله ومشروعه السياسي. فالمقاومة الوطنية كما نوصّفها هناك إجماع حولها. أما مشروع حزب الله السياسي فأبداً، ليس هناك إجماع حوله”.

يضيف: “المقاومة تتأمّن مقتضياتها على مستوى الوطن والدولة. أما المشروع السياسي لحزب الله، فأبداً لسنا معنيين بتأمين مقتضياته كوطن وكدولة، وتحديداً المشروع الإقليمي الذي لا يخفي الحزب أنّه جزء منه.  كما أنّه يمكن لميشال عون ان يقنع ناسه بالمقاومة لكن لا يمكنه وهو لا يقبل أصلاً بأن يقنعهم بالمشروع السياسي للحزب”.

*لكن ألم يختل التوازن بين طرفي التفاهم بعد تجربة العهد؟

– “التفكير في إعادة تجديد التفاهم للحفاظ على التوازن بين طرفيه كان دائماً موجوداً عند الفريق القريب من العماد عون. لكن هناك أكثر من محطة شهدت إخلالاً بهذا التوازن. ففوراً بعد أيام قليلة من انتخاب العماد عون لاقى حزب الله العهد باستعراض عسكري في القصير، وهذا أمر لم يقابل بارتياح من قبل العهد، لا بل اعتبر أنّه خروج على مفهوم التوازن الحيادي المؤسس لتفاهم مار مخايل. ثمّ بعد وقت قصير، أعلن عن إنشاء سرايا وئام وهاب في الجاهلية. المحطة الثانية كانت خلال تشكيل حكومة سعد الحريري بعد الانتخابات النيابية، فبعندما حلّت كلّ العقد برزت عقدة سنّة 8 آذار، ويومها قال ميشال عون إنّ هذه العقدة تشكّل تلاعباً بأسس الوفاق والميثاق، ويمكن أن تؤدي إلى حرب أهلية. أمّا المحطة الثالثة، ففي 22 أيلول عندما أعلن عون بشكل واضح وصريح أنّ الطائف كميثاق وكدستور لا يُخصّص أيّ حقيبة لأيّ طائفة”.

آخر المهمات الوطنية الكبرى الملقاة على ميشال عون، هي إقناع حزب الله بالفصل بين المقاومة والمشروع، ووضع الضوابط الوطنية الميثاقية للمقاومة وإخضاع المشروع للمندرجات القانونية للدولة اللبنانية

يخلص عزيز إلى أنّ كلّ هذه المحطات تؤكد أنّ الإدراك بأنّ هذا التفاهم تعتريه بعض الثغر كان موجوداً دائماً. لكنّه يعتبر أنّ “آخر المهمات الوطنية الكبرى الملقاة على ميشال عون هي إقناع حزب الله بالفصل بين المقاومة والمشروع، ووضع الضوابط الوطنية الميثاقية للمقاومة وإخضاع المشروع للمندرجات القانونية للدولة اللبنانية”…. “بعد رئاسة ميشال عون لا أرى أنّ أحداً يستطيع أن يتكلّم مع حسن نصرالله في هذا الموضوع، أي كيف نحمي المقاومة من دون أن  تبتلع الدولة، وكيف نحيّد المشروع السياسي للحزب من دون أن يعتبر أنه مستهدف، ويذهب باتجاه 7 أيار جديدة”.

يتطرّق عزيز إلى تجربة عهد ميشال عون، فيعتبر أنّه مرّ بمرحلتين، “الأولى منذ بدايته حتى ما بعد عودة الرئيس سعد الحريري من السعودية في 22 تشرين الثاني 2017، والتي كانت مرحلة صعود وتوازن على مستوى علاقات القوى السياسية. ثمّ بدأ الانحدار منذ بداية 2018، مع فهم القوى السياسية لعودة الرئيس الحريري فهماً خاطئاً أدّى إلى سلوكيات خاطئة، وبعدها بدأ الاستعداد للانتخابات النيابية التي انتجت سلسلة من الممارسات التي ضربت الدولة وضربت العلاقات بين القوى السياسية مما أدى إلى بداية اغتيال العهد”.

*هل سقطت نظرية الرئيس القوي”؟

“كنت أصلاً ضدّ هذه النظرية، ولذلك منذ اللحظة الأولى لإعلان معركة رئاسة ميشال عون كنت أحضّر لإطلاق شعار الرئاسة وهو بيّ الكل لا العهد القوي الذي أطلق مع التحضير للانتخبات النيابية وليس قبلاً. وهذان شعاران لكل منهما فلسفة مختلفة للحكم وأداء رئيس الجمهورية، واختلافهما يختصر بالفرق بين الرئيس الحكم والرئيس الحاكم. فبيّ الكلّ هو الرئيس الحكم، أما الرئيس الحاكم فهو الرئيس القوي. رأيي أنّ لبنان بدستوره ونظامه وبموازين قواه الداخلية لا يحتمل رئيساً حاكماً. أصلاً حرب العام 1975 اندلعت في جزء رئيس منها على نظرية الرئيس الحاكم غير المسؤول وفق دستور ما قبل الطائف”.

يستفيض عزيز في تفنيد الفرق بين المفهومين، يقول: “في واقعنا الحالي مهمّة رئاسة الجمهورية تتلخّص في مبدأين، الأول نسج علاقة طبيعية سليمة مع كلّ القوى السياسية أو الجماعتية في لبنان، والثاني بناء دولة عصرية، حديثة، فاعلة وقوية، ليس كما يسميّها أحياناً حزب الله”.

برأيه، “أنّ البعض أخذ مفهوم العهد القوي باتجاه مناقض لهذين المبدأين، وفق نظرية أنّه ليس المطلوب علاقة سليمة ومتوازنة بين الجماعات إنما صراع يومي بين الجماعات ومعارك يومية لتكرّس الزعامة المفقودة والمفتقدة الشرعية. كذلك ليس المطلوب بناء الدولة، إنما الاستزلام للدولة وإدخال المحاسيب فيها بناء لخوض الانتخابات. لذلك لم يسقط مفهوم الرئيس القوي، لكن لا يجب أن يكون موجوداً أصلاً. يجب أن نعود إلى الدور الذي يصحّ أكثر لميشال عون، ولو خلال ما تبقى من عهده، أي إلى دور التفاهم بين الجماعات وبناء الدولة”.

*تحيّد ميشال عون…

– “في النهاية كلّ إنسان مسؤول. في المفهوم القانوني هناك المذنب وهناك المسؤول. قد يكون رئيس الجمهورية غير مذنب، لكن الأكيد أنّ هناك مسؤولية تقع عليه في كلّ تصرّف يقوم به، وهو رجل مسؤول أصلاً”.

البعض أخذ مفهوم العهد القوي باتجاه مناقض لهذين المبدأين، وفق نظرية أنّه ليس المطلوب علاقة سليمة ومتوازنة بين الجماعات. إنما صراع يومي بين الجماعات ومعارك يومية لتكرس الزعامة المفقودة والمفتقدة الشرعية

نسأل عزيز عن الجدل الدائر حول تغيير النظام وتطويره وآفاقهما، فيجيب أنّ “الطائف منذ بدايته كانت فيه مشكلتان خلقيتان، الأولى هي الرعايات الخارجية له والثانية هي قبول الجماعات الداخلية به. على المستوى الأول البعض قال إن الطائف فصّل على قياس حافظ الأسد في علاقاته السعودية الأميركية بين 1989 و1990، وبغياب الأسد بعد 10 سنوات تبدلت هذه العلاقات لا بل سقطت نهائياً، وبالتالي لم يعد هناك أيّ مجال لاستمرار الطائف في بعده الخارجي”.

يضيف: “كذلك الطائف كان محكوماً برفض جماعتين له هما الشيعة والمسيحيون، الشيعة أُقنعت بالقبول بالطائف عبر التعويض لهم عن السلطة الدستورية بالسلطة الواقعية عبر المقاومة والسلاح. أمّا المجموعة المسيحية فأُقنعت بالعصا عبر النفي والاعتقال.  ثمّ بعد 2005 أضيف إلى هذين الاعتبارين اعتبار سني. إذ قالت الحريرية السياسية أنا قدّمت دم رفيق الحريري كذخيرة لتحرير لبنان من الوصاية السورية. وعليه يجب أن يكون هناك اعتراف أكبر من الطوائف الأخرى لدورنا في النظام. وهذا تكرار copy paste لمفهوم المارونية السياسية في العام 1943. عندما قال المسيحيون نحن قبلنا بالتخلّي عن داعم دولي كبير هو فرنسا، ومقابل هذه التضحية يجب على القوى الأخرى أن تعترف بفضلنا وتعطينا الأرجحية الأولى في النظام، وهو ما انتج المارونية السياسية”.

يسأل عزيز: “هل غياب المظلة الخارجية للطائف، وبروز الاعتراضات عليه من الداخل يعنيان أنه يجب أن نتخلّى عنه؟”، ويجيب: “برأيي يجب أن نكون حذيرين جداً في هذا الأمر، ولا يجب أن نقدم على أيّ خطوة من الخطوات باتجاه تغيير الدستور. فالدستور اللبناني حتى هذه اللحظة بمفهومه وشقه الميثاقي لا يزال صالحاً لإدارة وبناء الدولة اللبنانية ولإدارة علاقات الجماعات اللبنانية بعضها ببعض، ولإدارة علاقات لبنان بالخارج”.

يقول: “أيّ تسرع بالذهاب الآن إلى عملية تغيير دستورية قد يندم عليها جداً من يُقبل عليها، لأن في النهاية أيّ عملية تغيير للنظام ستكون وليدة موازين القوى، وهذه الموازين متقلّبة جداً في الداخل والخارج في المدى الزمني المنظور. لذلك، أيّ حساب يمكن أن يكون حساباً خاطئاً في هذا المجال. كذلك بعد 17 تشرين، هناك معطى كبير دخل على المعادلة وهو المعطى المدني أو اللاديني. فإذا كان المطلوب بعض من التصحيحات الدستورية، فللاعتراف بهذه القوى اللادينية لناحية الحقوق السياسية والحقوق الشخصية”.

في السياق، يعتبر عزيز أنّ من يقدم على معادلات من قبيل الدستور مقابل السلاح سيكتشف خطأه، “لأن أيّ اتفاق تضعه على الورق عند التطبيق سيكون خاضعاً لميزان القوى مهما كانت حرفية نصه. ففي لحظة التطبيق سيكون خاضعاً لموازين القوى غير الثابتة الآن. ولذلك الأكيد أنّ هناك طرفاً من أطراف أيّ اتفاق جديد اليوم سيكتشف عند التطبيق أنه خُدع لأن ميزان القوى تغيّر. ولذلك، سيذهب إلى محاولة رفض أو تعويض بما يؤدي إلى مشاكل جديدة لكي لا نقول حروباًً جديدة. لذلك، أنا أقول بالتمسك بهذا الدستور فهو صالح. ربما يجب العمل على سدّ بعض ثغراته العملانية، لكن من دون تعديل دستوري”. 

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…