ثمّة ما يريب في اندفاعة “حزب الله” لإثارة “أزمة ميثاقية” عنوانها وزارة المالية، وسط كلّ هذا الركام الاقتصادي والسياسي. هل يحتاج الشيعة إلى فرض معركة كهذه في حشرة وطنية كبرى كهذه؟
ليس عصياً على التذكّر أنّ وزارة المالية آلت للثنائي الشيعي في حكومة الرئيس تمام سلام عام 2014 من دون ضجيج “ميثاقي”، بل تمّ الأمر حينها تحت جِنْح المداورة.
إقرأ أيضاً: التسوية المؤجّلة: المالية لبري والداخلية للحريري؟
وقبل ذلك تشكّلت اثنتا عشرة حكومة منذ العام 1992، تناوب عليها سبع رؤساء حكومات: الشهيد رفيق الحريري، وسليم الحص، وعمر كرامي، ونجيب ميقاتي، وفؤاد السنيورة، وسعد الحريري. كلّ هؤلاء لم يواجهوا بياناً من النوع الذي أصدرته كتلة الوفاء للمقاومة، أو كلاماً من الصنف الذي يوزّعه “حزب الله” على صحفه وأقلامه والناطقين بما يوحى إليهم.
الحجة الدستورية التي يقوم عليها الإشكال ركيكة، إذ إنها ترمي إلى ضمّ محاضر اجتماعات الطائف غير المنشورة إلى رتبة الدستور، وهو ما لم يقل به أيّ فقيه. فالمحاضر يمكن أن تكون حجّة على مستوى التفسير، لكنها لا تُنشئ قاعدة دستورية لم يرد فيها نص ولا سابقة عرف.
لماذا “الأزمة الميثاقية” الآن إذا كان الجميع صادقين في الاستجابة للمبادرة الفرنسية؟ ولماذا يتصدّى “حزب الله” بهذه الحدّة لمطلب يفترض أنّ الرئيس برّي قادر على تدبّر أمره؟ لماذا يسعّر “حزب الله” الأمر، ويصوّره كما لو أنه انقلاب على الشيعة وحصار لهم؟
وحتى الرئيس نبيه برّي، المعنيّ الأول بالأمر، كان يسجّل موقفاً عند تشكيل بعض الحكومات، لكنه لم يُثر أزمة ميثاقية حول وزارة المالية في أيٍّ من حكومات الوحدة الوطنية أو ذات اللون الواحد. المفارقة أنّ الرئيس برّي بالذات سبق أن تنازل عن مقعد من الحصة الشيعية، وجيّره للسّنة في حكومة ميقاتي عام 2011، وما ذهب شيءٌ من وزن الشيعة في النظام والميثاق. فما الذي يمنعه، فرَضاً، أن يقول إنّ المالية من حق الشيعة، لكنّه يتنازل عنها كما تنازل عما هو أكبر من قبل؟
كلّ ذلك مدخل للسؤال: لماذا “الأزمة الميثاقية” الآن إذا كان الجميع صادقين في الاستجابة للمبادرة الفرنسية؟ ولماذا يتصدّى “حزب الله” بهذه الحدّة لمطلب يفترض أنّ الرئيس برّي قادر على تدبّر أمره؟ لماذا يسعّر “حزب الله” الأمر، ويصوّره كما لو أنه انقلاب على الشيعة وحصار لهم؟
ثمّة تفسيرات دارجة، وأوضحها أنّ إيران لا تريد تقديم تنازل في لبنان تفهمه الإدارة الأميركية انكفاءً، فيما المواجهة على أشدّها على مستوى الإقليم. وقد يصلح مطلب وزارة المالية عنواناً يشدّ العصب لتغطية ما يهمّ الحزب، وهو التمثيل المكتمل الأوصاف في الحكومة، بوزراء يسمّيهم بلا مواربة. وذاك تفسير يعيد الإشكال الراهن إلى حيّزه السياسي الإقليمي والمحلي، أكثر من أن يكون في الحيّز الميثاقي.
واقع الحال أنّ “الميثاقية” شيء من عدّة شغل الحزب حين يحتاج لتوسيع حوزته السياسية أو حماية مكاسبه. استخدمها حين استقال الوزراء الشيعة لإسقاط حكومة السنيورة في العام 2006، واستخدمها بعد انتخابات العام 2009 ليتحكّم بمسار تأليف الحكومة. والمفارقة أنّه يمسك الورقة الشيعية الميثاقية فيما ينفي الصفة الفئوية عن سلاحه!
غير أنّ أخطر ما في الأمر أن “حزب الله” يقارب المسائل الميثاقية، منذ العام 2005 بمعادلة تعيد تشكيل النظام بالممارسة: إما تنفيذ ما يريد، وإما “رح يصير مشكل بالبلد”. وذاك هو التعبير الضمني عن وضع السلاح على الطاولة.
فلنستذكر كم مرّة استُخدمت هذه المعادلة: كان الاستخدام الأول في معمعمة الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية حتى ما قبل حرب تموز 2006. حينها كان نصر الله يحضر الحوار ثم يخرج ليقول إنّ من يطلب نزع السلاح سيُنزع منه قلبه وعقله وروحه.
الميثاقية لا تكمن في ما تتفق عليه المكوّنات، بل في آلية توصّلها إلى الاتفاق. وأيّ “اتفاق” يصنعه “مشكل في البلد”، لا يمكن أن يكون إلا اعتداءً موصوفاً على الميثاقية
ثم كان الاستخدام الأكبر بين العامين 2006 و2008، في ذلك “المشكل” الذي بدأ اعتصاماً مسلّحاً حاصر السراي الكبير وشلّ وسط بيروت عاماً ونصف العام، وانتهى اجتياحاً مسلحاً للعاصمة في 7 أيار 2008. حقق ذلك “المشكل” مستهدفاته عبر اتفاق الدوحة الذي انتزع إقراراً من جميع الفرقاء، تحت ضغط السلاح، بتغييرين عميقين في النظام السياسي، أولهما إسقاط “الحوار الوطني” حول الاستراتيجية الدفاعية، بما هو إذعان لوجود السلاح الخارج على سلطان الدولة، وثانيهما إرساء “الثلث المعطّل” عرفاً دستورياً يسري على “حزب الله” ولا يسري على سواه، سواء كانت لفريقه الأكثرية أم الأقلية.
وتكرّر “المشكل في البلد” حين أراد الحزب إسقاط المحكمة الدولية وقرارها الظني، بإثارته ما عُرف باسم ملف “الشهود الزور”. فكان استعراض القمصان السود وحكومة اللون الواحد، ثم كان التلويح بـ”المشكل في البلد” ليسكت أيّ اعتراض على ذهابه للقتال في سوريا والعراق واليمن. والآن يهدّد الحزب بـ “مشكل” إذا لم يسلّم للثنائي بوزارة المالية وبحق تسمية وزرائه في الحكومة.
معادلة “المشكل في البلد” هي النقيض الكامل للميثاق، من حيث المفهوم والمصداق. فقوّة الطائف أنّه لم يكن ميثاقاً يفرضه من يحمل السلاح على من لا يحمل السلاح، بل كان، في صياغته على الأقل، يحمل ميزان الحجة السياسية في وجة ميزان السلاح على الأرض، وتلك هي قوته الكامنة إلى اليوم، بما طُبّق منه وما لم يطبّق. ذاك أنّ الميثاقية لا تكمن في ما تتفق عليه المكوّنات، بل في آلية توصّلها إلى الاتفاق. وأيّ “اتفاق” يصنعه “مشكل في البلد”، لا يمكن أن يكون إلا اعتداءً موصوفاً على الميثاقية.
ما يمارسه الحزب في الإشكال الراهن ليس إلا الذي كان في اتفاق الدوحة 2008: سطوة السلاح على الميثاقية. وما نجح في حينه لن ينجح هذه المرّة والأدلّة كثيرة.