سعد الحريري يهوى الانهيارات. كان والده بنّاءً، وهو يهوى الهدم. مفارقة مؤلمة وصادمة. كأنّه وُلِدَ ليهدم. يبحث عن أيّ معركة ليخسرها. ثم يعود ويطلّ من تحت الركام ليخبرنا بأنّه اختار الهزيمة كرمى لعيون البلد.
ليس ثمّة في كلّ هذا ما ينطوي على أيّ مبالغة أو استهداف، بل مجرّد توصيف حقيقي لرجل أدمن الخسارة فعلاً. وهو لن يجد نفسه يومًاً إلا سابحًاً في بحرها، أو منتظرًاً على شواطئها، وكأنّها قدره الناجز أو واجبه اللعين. لكنّ الحقيقة في مكان آخر. فبعض الهزائم، أو جُلّها، لم تكن هزيمة بقدر ما كانت استسلامًاً، أو تسليمًاً بالأمر الواقع، أو تعبيرًاً عن فائض عاطفة لا تستوي قطعًاً مع لعبة سياسية شديدة المكر وصعبة المراس.
إقرأ أيضاً: تجرّعْ وحدَك!
الجديد في الهزيمة هذه المرّة هو تجرّع السم. أي الانتحار الموصوف عن سابق تصميم وإصرار. والانتحار هنا لا يتعلّق بمضمون موقفه المستجدّ من وزارة المالية، بل بإصراره على شطب ذاته وإهانة ناسه، بطريقة لا تستوي وأبسط الأساسيات الناظمة لعمل السياسي، حيث لا يصحّ أن ترفض الشيء على نحوٍ علني، ثم تعود لتقبل به بناء على سوء تقدير، وما الحديث هنا عن ضغوط تعرّض لها الرجل من الرئيس الفرنسي إلا إمعانًاً في إهانته وإهانة فريق عمله، لا سيما وأنّ الجميع كان يدرك بأن الجانب الفرنسي لن يتوانى عن ممارسة الضغط الأقصى لتشكيل الحكومة التي باتت في صلب اهتماماته الاستراتيجية، بل وعنواناً واضحًاً ومباشرًاً لنجاحه أو فشله.
بين هذا وذاك، كان الأجدى لنا وله أن يتمسّك سعد الحريري بموقفه المبدئي والشجاع. ولو لمرّة واحدة. أن يقول “لا” كبيرة بوجه الجميع
كان يمكن مثلاً عدم الذهاب نحو سقف سياسي مرتفع قبل أيام قليلة من نسفه والعودة عنه، وكان يمكن أيضًاً الانتظار حتى يتبلور المشهد برمّته قبل الركون إلى خيار التسوية أو أواسط الحلول، لكن التراجع المباغت على هذا النحو، هو بطبيعة الحال خيار جنوني، لا سيما وأنّه لم يتزامن مع وضع اللمسات الأخيرة على التشكيلة الحكومية، حيث إنّه لم يشكّل الحلّ النهائي للمعضلة القائمة، بل منح تراجعًاً مجانيًاً للثنائي الذي رفض المبادرة، واستمرّ في لعبة كسب النقاط وعضّ الأصابع، ليصل في نهاية المطاف إلى تحقيق شروطه التي طالب بها منذ بداية التشكيل.
بين هذا وذاك، كان الأجدى لنا وله أن يتمسّك سعد الحريري بموقفه المبدئي والشجاع. ولو لمرّة واحدة. أن يقول “لا” كبيرة بوجه الجميع. ممنوع أن يُحتقر الدستور ويُشطب بالممارسة. ممنوع أن تصير الحقيبة الوزاية حقًاً حصريًاً لأيّ طائفة أو حزب. وليتحمّل حزب الله حينذاك مسؤولية خياراته السياسية التي لا تستوي مع أيّ منطق أو نصّ، بل وتتصادم مع إجماع سنّي – مسيحي وكثرة من الصامتين من الشيعة، ومن اللبنانيين الذين باتوا ينظرون إلى وجهه الحقيقي وصورته المباشرة، بلا أقنعة أو وكلاء.
عبثًا نحاول النقاش في خيارات سعد الحريري وتوجهاته وسياساته. الرجل بات كمن يغرق في رمال متحرّكة. وأمثال هؤلاء العطاشى لا يُفرّقون بين كأس من الماء أو كأس من السمّ
ثمّة من يقول إنّها محاولة ذكية لتعرية حزب الله وحشره في مكان لا يُحسد عليه. لكنّ أصحاب هذه النظرية، التي يغلب عليها طابع السخرية والفكاهة، لا ينتبهون أنّهم ليسوا مصابين بعمى الألوان وبإساءة التقدير وحسب، بل بالجهل التاريخي والسياسي، ومن لم يقرأ التاريخ محكوم بإعادته، وهم لا يملّون من الإعادة ومن التكرار، وفي كلّ مرّة ينتظرون نتائج مختلفة.
عبثًا نحاول النقاش في خيارات سعد الحريري وتوجّهاته وسياساته. الرجل بات كمن يغرق في رمال متحرّكة. وأمثال هؤلاء العطاشى لا يُفرّقون بين كأس من الماء أو كأس من السمّ. هو مستعد أن يتجرّع أيّ شيء، لكنّنا نحن من سيدفع الثمن. وإذا كان لا بدّ من شيء نقوله له في هذه العجالة، فلا بأس أن نردّد جميعًاً على مسامعه: تجرّع ما شئت يا دولة الرئيس. لكنّنا نرجوك، لا تقل تجرّعته لأجلكم، فنحن آثرنا أن نتجرّع الكرامة، وأن نرفض لأجلها وأن نناضل ونصمد، وصولاً إلى قيامة لبنان الذي نريده ونشتهيه.