بات التفكير في الفراق يعلو على أيّ تفكير آخر، متخطّياً ما نصّ عليه اتفاق الطائف من إرساء اللامركزية الإدارية الموسعة والإنماء المتوازن للمناطق. لم ينطلق بعد مطلب واضح بالفدرالية كحلّ واقعي، وهي التي كانت مطلب قوى مسيحية معروفة أثناء الحرب وحتى بعدها، ولا ذكر أحد التقسيم، وهو يعني الفراق النهائي أو نوع من الكونفدرالية الفضفاضة. لكن ما يسري بالتأكيد بعد مئة عام من لبنان الكبير، هو عودة التفكير في لبنان الصغير. ولا يملّ هذا الشبح من ارتياد الأذهان عند كلّ أزمة مسيحية وجودية. ولا يحتاج هذا السيناريو إلى كبير عناء، فالحرب الأهلية (1975-1990)، وما جرى فيها من تطهير طائفي، ثم التبدّل الديموغرافي الهادئ بعدها، والهجرات الاقتصادية والسياسية معاً، رسمت كلها خطوط المناطق شبه الصافية، والعائق الوحيد أمامها الآن هو التمدّد الشيعي. لكن هل الحلّ هو الطلاق الرسمي بين الطوائف، أو في الهجر المؤقت ريثما يتمّ الاتفاق على وفاق آخر يكون أكثر نجاعة لجميع مكوّنات هذا اللبنان؟
إقرأ أيضاً: الراعي يشهر “الفيتو الماروني”: المثالثة نواجهها بالتقسيم
إنّ نداء البطريرك الماروني بشارة الراعي في 5 تموز الماضي، والتصدّي للدعوة إلى حياد لبنان، هو محاولة جادّة لإنقاذ العيش المشترك بين الطوائف. ومغزاه تحديداً أنّ الخلاف الرئيسي حالياً، ليس على طبيعة النظام الديموقراطي البرلماني ولا نظامه الاقتصادي الليبرالي، بل هو على القرار السيادي، قرار الحرب والسلم، والسؤال بين وضعه بيد الدولة حصراً، التي هي الوعاء الجامع لكلّ المكوّنات والسلطات، أم بيد حزب واحد؟
في السنوات السابقة، أي رجوعاً إلى تفاهم مار مخايل بين حزب الله وبين التيار الوطني الحرّ عام 2006، كان هناك شبه تسليم مسيحي بدور ما لسلاح حزب الله بانتظار تغيّر الظروف الإقليمية. وحتّى أهل السنة ومعهم الدروز وبقية معسكر 14 آذار ارتضوا أن يكون السلاح على طاولة الحوار لرسم استراتيجية دفاعية، لم تبصر النور إطلاقاً. أخيراً، لم يعد في الميزان إلا وجود لبنان نفسه، بسبب الانهيار المالي وامتناع الدول الصديقة والشقيقة عن مدّه بالمال مجدّداً. لعلّ من يريد إنهاء حزب الله اكتشف نقطة الضعف فيه (كعب أخيل في الأسطورة الإغريقية): إنه لبنان.
في هذه الأثناء، ومع عدم احتكار الدولة للعنف، كما هو الحال في سائر الدول، لا يمكن عقد ورشة دستورية، ولا مؤتمر تأسيسي
فلبنان دولة مدمنة للعجز نظرياً منذ عشرات السنين، تستهلك أكثر مما تنتج. وتحصل على الفرق من خلال تحويلات المغتربين واستثمارات اللبنانيين والأجانب وتدفقات الأموال الهاربة إلى ملاذ النظام الاقتصادي الحرّ والسريّة المصرفية في لبنان. وعندما تعجز تلك التدفقات عن ردم الفجوة بين الموارد والنفقات، تقوم الدول العربية الخليجية برفد لبنان بالأموال اللازمة عقب كلّ حرب، أو جولة صراع. ويختصر كلّ ذلك، أسلوب بونتزي Ponzi الاحتيالي، والذي يمارسه كلّ تاجر أو مقاول مزعوم لا يملك أيّ رأسمال. يستدين مقابل فوائد عالية غير منطقية، ويستدرّ بها ديوناً أخرى، فيدفع بها فوائد الديون السابقة، إلى أن تأتي لحظة يتوقف فيها أحد عن إقراضه فيسقط الهرم. هذا ما حصل لشركات الأموال الزائفة في لبنان على مدى العقود السابقة، وهو ما وقع حرفياً للبنان كله، لا سيما منذ تثبيت سعر الليرة عام 1999، على 1507.5 ليرة للدولار الواحد.
أما الأرقام فكانت خادعة تماماً حتى قبل سنوات قليلة فقط. ارتفعت الاحتياطات بالعملات الاجنبية من 1.4 مليار دولار عام 1992 إلى أكثر من 43 مليار دولار في نهاية أيلول (بحسب تقرير فرنسبنك) عام 2018. ارتفعت الودائع المصرفية من 6.6 مليارات دولار 1992 إلى نحو 187 مليار دولار. وصل القطاع المصرفي اللبناني إلى المرتبة الخامسة بين القطاعات المصرفية العربية من حيث حجم الأصول، وإلى المرتبة الثانية بين القطاعات المصرفية للدول العربية غير النفطية، بحيث استحوذ على نحو 7% من إجمالي موجودات القطاع المصرفي العربي، و8% من ودائعه.
كأنّ الجرح لا يكفي. فأضيف إليه أملاح عدة: عقوبات أميركية على أفراد وشركات، انفجار المرفأ وتدمير آلاف المنازل في بيروت، جائحة كورونا التي زادت البلد إفلاساً على إفلاس، وأخيراً مبادرة فرنسية مقابل حبل الإنقاذ
بعبارة سياسية أفشلت الإدارة المستندة إلى تفاهم مار مخايل ضمناً هذه الصيغة المالية المتقدّمة، ووصلت بلبنان إلى دولة فاشلة بكلّ المعاني. فما بين عامي 2006 و2016، كان ديدنها تعطيل البرلمان وعدم إصدار موازنات، والصرف المفرط من خارج القاعدة الاثني عشرية، (أي بما يتجاوز إنفاق آخر موازنة لعام 2005) وتعطيل الحكومات لدى تشكيلها وعند تسييرها بالثلث المعطّل وسواه، وتعطيل الانتخابات الرئاسية. ثم بلغت الكارثة ذروتها مع التسوية الرئاسية عام 2016، عندما وجدت الغطاء السني الملائم (سعد الحريري). فكلما اكتملت السيطرة، تمادى الانهيار المقنّع، إلى أن انكشف.
وكأنّ الجرح لا يكفي. فأضيف إليه أملاح عدة: عقوبات أميركية على أفراد وشركات، انفجار المرفأ وتدمير آلاف المنازل في بيروت، جائحة كورونا التي زادت البلد إفلاساً على إفلاس، وأخيراً مبادرة فرنسية مقابل حبل الإنقاذ. والمطلوب اعتراف بالفشل ودفع الثمن السياسي، وهو غير متوقع.
فهل الفراق هو لإعادة النظر في الالتئام مجدّداً وفق شروط مختلفة؟
عام 1920، ضُمت مناطق إسلامية إلى لبنان من دون تشاور ولا اتفاق، لما في تلك المناطق من أهمية حيوية للبنان الصغير. حدث اتفاق ملتبس لاحقاً، عام 1943. لكنه كان يحتاج إلى توضيح، وإلى تطوير وتعديل. حصل التفاوض دائماً تحت النار، فكان اتفاق الطائف عام 1989. وكانت صيغة بعض بنوده ملتبسة عمداً كي تتجنّب الخلافات المزمنة، فنشأ نظام ملتبس، سمح للبرلمان بالتحكّم بالحكومات، وللوزراء بإنشاء ممالك مستقلة، ولرئيس الحكومة بإدارة فوضى عارمة، ولرئيس الجمهورية بممارسة هواية الحكم من وراء ظهر رئيس الحكومة، وكأن شيئاً لم يكن.
في هذه الأثناء، ومع عدم احتكار الدولة للعنف، كما هو الحال في سائر الدول، لا يمكن عقد ورشة دستورية، ولا مؤتمر تأسيسي. نحن إذاً في وضعية الاستعصاء الذي يجعل من الفراق غير المعلن، هو المسار الطبيعي لانهيار مؤسسات الدولة، عقب انهيار سعر الليرة، ما يسمح لدول أخرى بالتدخل بالمال والرجال. وهذا بالضبط ما جاء إيمانويل ماكرون لمنعه واستدراكه ولم ينجح حتى الآن…