في الألفيّة الثالثة، يبدو الحديث عن فلك الطوائف الوزارية اللبنانية كنوع من الشعوذة التي انقرضت في غالبية الدول المتطوّرة، إلا أنّها لا تزال سائدة حصراً في بلد القبائل الدينية… المُسيّسة. على هذا المنوال، يسعى رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى إحكام قبضته على حاكميّة لبنان المالية. لذا نراه مصرّاً ومدعوماً من حزب الله على أن يكون وزير المالية شيعياً. إصراره هذا منبثق من الرغبة بضمان التوقيع الشيعي على المراسيم كافة، التي يُوقّع حالياً عليها رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الحكومة السنّي، ووزير المالية في حال كان الموضوع يرتّب أعباء مالية على الدولة، بالإضافة إلى الوزير المختصّ.
إقرأ أيضاً: تفاصيل العرض الفرنسي للبنان: Take It or Leave It
من وجهة نظر رئيس السلطة التشريعيّة، فإنّ اتفاق الطائف كان قد رسّخ عرف إعطاء حقيبة المالية إلى “الشيعة” إلا أنّ ممثلي الطوائف الأخرى ينفون ذلك، ويقولون إنّه لو صحّت هذه الحكاية لوردت في إحدى فقرات وثيقة الوفاق الوطني في نصّ صريح وواضح. وفي عملية إحصائية بسيطة، يتبيّن أنّ “الماليّة” قد أُسندت في الواقع بعد الطائف بنسبة 51% إلى السنّة و30% إلى الشيعة، ما يعني أنّ “شيعيتها لا تصل حتّى إلى مرتبة العرف.
من هذا المنطلق، يخشى اللبنانيون أن تُكرّس وزارة المالية، التي يحتاجها ويتعاطى معها كلّ مواطن دون استثناء، إلى فريق “مُقاصص” دولياً. كما وتسود حالة ذعر جرّاء المزيد من السيطرة الشيعية على إدارة الدولة من الناحية المالية: أولاً بسبب أهمّية دور وزير المالية في مرحلة إعداد الموازنة، وثانياً بسبب العقوبات الأميركية التي طالت وزير المالية السابق علي حسن خليل بفعل قانون “ماغنيتسكي” (Global Magnitsky Act)، الذي ستستخدمه الولايات المتحدة الأميركية لتوسيع دائرة اتهاماتها لأعضاء “محور الممانعة”. ما يعني ببساطة – في حال تسمية “سيّد الماليّة” من قبل “الثنائي الشيعي” – تمييعاً في التدقيق الجنائي من جهة، ومن جهة ثانية محاولة حثيثة لإخفاء مستندات وأرقام ومكامن فساد من شأنها عرقلة مسار استعادة الأموال المنهوبة يوماً ما.
يخشى اللبنانيون أن تُكرّس وزارة المالية، التي يحتاجها ويتعاطى معها كل مواطن دون استثناء، إلى فريق “مُقاصص” دولياً
إلا أنّ التخوّف الأكبر نابع من استمرار الثنائي الشيعي في الإمساك بالدولة “مالياً” من خلال إعداد وإقرار وتنفيذ الموازنة. بالإضافة إلى هيمنته، إلى جانب وزارة المال، على 6 مناصب شيعية حالياً، من الأكثر دقّة، تحديداً في الظروف الراهنة. فالثنائي الشيعي يعيّن كلّاً من رئيس ديوان المحاسبة، والنائب الأوّل لحاكم مصرف لبنان، والمدير العام لوزارة الاقتصاد، والذي هو أيضاً عضو في المجلس المركزي لمصرف لبنان، بالإضافة إلى النائب العام المالي، والقاضي الشيعي العضو في الهيئة المصرفية العليا في مصرف لبنان (وهي أعلى محكمة مصرفية) وكذلك القاضي الشيعي في هيئة التحقيق الخاصّة (المكلفة بمكافحة تبييض الأموال).
تقنياً، تنصّ المادة 18 من قانون المحاسبة العمومية عن إعداد الموازنة، على أن “يعرض وزير المالية مشروع الموازنة على مجلس الوزراء مشفوعاً بفذلكة تفسيرية تتضمّن:
1- بياناً عن الحالة الاقتصادية والمالية في البلاد.
2- بياناً عن السياسة المالية التي تنوي الحكومة اتّباعها في السنة التالية، والمشاريع والإصلاحات التي تنوي تحقيقها في شتى الميادين.
3- إيضاحات وافية عن الأرقام الواردة في جداول الموازنة وعن الفروق الظاهرة فيها”.
لوزير المالية صلاحيّة التدخّل في كلّ عقد نفقة على حدة، فيسهّل ويعرقل كما يريد رغم بعض الضوابط القانونية التي لا يتعدّى عددها أصابع اليد
بلغة أبسط، وفي إطار إعداد الموازنة، يقدّم الوزراء اقتراحات موازنات السنة المقبلة، ليجمع وزير المالية مشاريع الوزارات ويصيغ منها مشروع الموازنة بعد التداول مع الوزراء، ومن ثمّ يقرّر ماذا سيخصّص لكلّ وزارة في المشروع الجديد. تُظهر هذه الآليّة في الواقع كيف أنّ دور وزير المالية في إعداد الموازنة يتفوّق على أدوار كلّ الوزراء. فهو الذي يتحكّم بموازنات وزاراتهم (لذلك، فإنّ وزير المالية في فرنسا يُعتبر رئيساً ثانياً للوزراء). في مرحلة أخيرة، وبعد أن يقرّ مجلس الوزراء مشروع الموازنة يحيله إلى مجلس النوّاب، مملكة الرئيس نبيه برّي لإقراره، لتصبح الموازنة قانوناً ساري التنفيذ.
إلى ذلك، تمرّ آلية تنفيذ كلّ نفقة بأربع مراحل: عقد النفقة، تصفية النفقة، صرف النفقة، دفع النفقة، ويتحكّم وزير المالية بثلاثة منها:
– عقد النفقة، هو قرار الإنفاق حسب الموازنة. وفيه يقرّر كلّ وزير عقد النفقات في وزارته. لكن لا يجوز عقد أية نفقة إلا بعد “تأشير مراقب عقد النفقات” أي موافقته المسبقة. ومن المعروف أنّ مراقبي عقد النفقات موظفون تابعون لوزارة المالية. هكذا إذاً يسيطر وزير المالية بصورة غير مباشرة على كلّ نفقة على حدة.
– تصفية النفقة، عملية إدارية غير مهمّة تجري في الوزارات، وهي الوحيدة التي تجري بدون تدخل “الماليّة”.
– صرف النفقة يجري في وزارة المالية.هذه الآلية كناية عن درس النفقة من جديد في المالية والتمعّن في قانونية معاملة الإنفاق، وتوفّر الاعتماد لها في الموازنة. ويمكن هنا للمالية أن ترفض دفع أيّ نفقة بحجة عدم قانونيتها.
– دفع النفقة، أي إصدار أمر تسديدها، هي مرحلة تجري في وزارة المالية.
كلّ ذلك يعني باختصار أن لوزير المالية صلاحيّة التدخّل في كلّ عقد نفقة على حدة، فيسهّل ويعرقل كما يريد رغم بعض الضوابط القانونية التي لا يتعدّى عددها أصابع اليد. وهو ما يمثّل خطورة فادحة لناحية انتماء وزير المالية إلى فريق سياسي معيّن وطائفة محدّدة خصوصاً واذا كان هذا الفريق هو نفسه حاكم لبنان، مالياً واقتصادياً.