“احرقوهون بالمرفأ… وينيي الدولة… وينو رئيس الجمهورية وينو بيي الكلّ.. بعدو قاعد عالكرسي… وين التحقيق…؟”، صرخات أطلقتها نساء وأهالي ضحايا المرفأ خلال وقفة رمزية نُفذت على البوابة رقم 3 من مرفأ بيروت بمناسبة مرور 40 يوماً على انفجار 4 آب، للمطالبة بتسريع التحقيقات ومحاسبة القتلى.
في الشكل ينتبه المشاهد بسهولة لتفاصيل الوقفة التي حملت اسم “عوائل شهداء تفجير مرفأ بيروت، وهو توصيف يستعمل حصراً في مناسبات خاصة بحزب الله. أي أنّ النكهة الشيعية البحتة تخرج علينا من الاسم. وينتبه المشارك أيضاً، من دون كثرة تفكير، إلى أنّ للحزب دوراً ما في هذه الوقفة، وإن بطريقة غير مباشرة أو غير معلنة. علماً أنّ الإعلاميَين المبادرين لتنظيم الوقفة هما حسين فوعاني وجومانة كرم عياد، معروفَان بولائهما المطلق لحزب الله وجبهة الممانعة.
إقرأ أيضاً: خسائر تفجير بيروت: بين 15 و20 مليار دولار
يقول أحد المتابعين للمشهد إنّ المضمون يحمل إلى جانب البعد الإنساني الموجع، رسائل مبطنة كثيرة من حارة حريك إلى بعبدا. فكانت واضحة الشتائم “الناعمة” الموجّهة للرئيس ميشال عون وتحميله مسؤولية ما جرى في مرفأ بيروت، والمطالبة بإعدام مدير عام الجمارك السابق بدري ضاهر، المحسوب على التيار الوطني الحرّ، وذلك بلغة الوجع، وعلى لسان أهل الضحايا. ويرى بعضهم في هذه الوقفة ورمزيتها محاولة استنساخ حزب الله لتجربة الحاجة حياة عوالي (الناطقة الرسمية باسم أهالي مخطوفي أعزاز والصرخة النسائية المدوية التي كان لها دور كبير بعودة المخطوفين ودعم قضيتهم). لكن البوصلة اليوم هي (الحليف) رئيس الجمهورية ميشال عون الذي “خذل” الثنائي الشيعي ولم “يطبّل” معه هذه المرّة للاستئثار بوزارة المالية، في محاولاتٍ لتكريس عرف يطوف حول “طموح” المثالثة.
تعيد المصادر التذكير بآلية التواصل بين القصر وحزب الله عبر “المعاون السياسي الأول والأخير لأمين عام حزب الله” الحاج حسين الخليل، الذي تُعتبر مرتبته من أرفع المراتب في حزب الله على اعتبار علاقته المباشرة مع نصر الله
مصادر في حزب االله تنفي لـ”أساس” أن يكون للحزب أيّ دور مباشر بالوقفة، وتنفي أن يكون لدى حزب الله أيّ نية لتوجيه رسائل إلى الرئيس عون في الشارع: “فعلاقتنا مع الرئيس عون تتسم بالانضباط والاحترام المتبادل. وعندما نريد شيئاً منه، لا نعتمد أسلوب توجيه الرسائل عبر الشارع”. وتؤكد هذه المصادر أنّه “ولا مرة” كان هناك تباين بوجهات النظر بين الطرفين لدرجة إطلاق الرسائل في الشارع: “وقد تكون الوقفة بمبادرة من مجموعة مؤيدة لحزب الله، لكن عندما تستقطب هذه الذكرى عدداً من المحتجين وكمّاً كبيراً من الوجع، فلا يمكن السيطرة على السقف الخطابي للمتظاهرين حينها”.
وتعيد المصادر التذكير بآلية التواصل بين القصر وحزب الله عبر “المعاون السياسي الأول والأخير لأمين عام حزب الله” الحاج حسين الخليل، الذي تُعتبر مرتبته من أرفع المراتب في حزب الله على اعتبار علاقته المباشرة مع نصر الله، ما يؤكد التعاطي المحترم والمنضبط بين الطرفين. ولا تنكر المصادر بعث بعض الرسائل الافتراضية من وقت لآخر “غير المنظّمة”، أي التي ليس فيها قرار حزبي، للتيار الوطني الحرّ أو رئيسه الوزير جبران باسيل، لكن ليس للرئيس عون: “فحزب الله يعتبر أنّ عهد عون هو عهده، ويدرك جيداً أنّ الحرب على الرئيس هي استهداف لحزب الله، فكيف له أن يحارب الرئيس في الداخل، فهو بذلك يكون كمن يطلق النار على نفسه”.
بدورها مصادر بعبدا لم ترَ في الوقفة رسالة لا واضحة ولا مبطّنة من حزب الله لها: “وإن كان هناك من رسالة فالله يسامحن” لأن الأهالي المفجوعين برأي مصادر بعبدا في حديث لـ”أساس”: “كيفما عبّروا عن وجعهم يجب أن نتفهّم ذلك. أما البناء على هذه الوقفة، وإن كانت لافتة، في السياسة فهو إخراج للمشهد من إطاره الإنساني وتحميله أكثر ما يحمل بالسياسة”.
في السياسة، التخاطب واضح، والقنوات غير مقطوعة بين الطرفين ليتراسلا بهذه الطريقة، بحسب مصادر بعبدا، حتّى لو كان التباين موجوداً في موضوع تشكيل الحكومة: “وحتى لو كان المقصود من الوقفة توجيه رسالة معينة، لكن الكباش السياسي اليوم في مكان آخر، وله ارتداداته المحلية والإقليمية، ومتشعّب أكثر من أن يكون هذا الحدث مع أهميته الإنسانية قادراً على أن يؤثر في المسار السياسي وشدّ الحبال الإقليمي، والخلاف الواقع اليوم”. فالوقت الآن للبحث عن مخارج حلول للوصول إلى حكومة إنقاذ وإصلاح “وأيّ محاولة لفرض عرف ما من دون موافقة جميع الأطراف هو غير منطقي، لأننا نطمح بالوصول إلى حكومة مهمّة وإنقاذ، لا حكومة أوزان ومعادلات سياسية داخلية، ولأن ذلك يتعارض مع المواقف المعلنة الداعمة للدولة المدنية وتطوير النظام الحالي… وإلا كيف سنعطي إشارة للداخل والخارج أننا فعلياً نريد تغيير هذا النظام؟”.
هذا التفاهم يتعرّض للمرة الأولى للاهتزاز منذ ما يقارب 15 عاماً برأي الزغبي، لأنّ الطرفين اختلفا مراراً على شؤون داخلية وعلى تحالف الطرفين كلٍّ من جهته مع الرئيس بري وفق مفهوم كلّ طرف
الكاتب والباحث السياسي الياس الزغبي له رأيه مختلف في كل ما سبق، ولم يقنعه نفي الطرفين للرسائل الكامنة في خلفية مشهد وقفة “عوائل شهداء تفجير المرفأ” وشكله. ففي الشكل، العنوان واضح أنّ “لحزب الله دوراً بالوقفة بشكلٍ أو بآخر. وحين نصل إلى مضمون المطالب والاتهامات التي أُطلقت تكتمل الصورة ويصبح المشهد شديد الوضوح، والاستنتاج المنطقي الطبيعي المباشر أنّ الوقفة تلك جرى تحضيرها كأحد وسائل الردّ من الثنائي الشيعي على موقف ثنائي العهد، رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحرّ، لأنّ حزب الله كان شديد الامتعاض من تصريح باسيل الرافض لتكريس وزارة المال لأيّ طائفة وتحديداً الطائفة الشيعية. ولذا، فهذه رسالة خشنة، ونوع من هزّ العصا للعهد ووريثه”.
ويتحّدث الزغبي عن التسريبات المقصودة التي جاءت من بعبدا وعن موقف عون الأخير الذي أوحى بأنّ عون يفضّل هو أيضاً المداورة، وبوضوح يعني عدم تكريس حقيبة المال لرئيس مجلس النواب نبيه بري أو الثنائي الشيعي. ويؤكد الزغبي لـ”أساس” أنّ “هذه التظاهرة إضافة إلى مؤشرات أخرى، تبيّن مدى التنافر بين حليفي الأمس إلى درجة أنّ هناك معلومات تتحدّث عن إقفال طريق الرجعة إلى التفاهم الشهير الذي حصل في 6 شباط 2006”.
فهذا التفاهم يتعرّض للمرة الأولى للاهتزاز منذ ما يقارب 15 عاماً برأي الزغبي، لأنّ الطرفين اختلفا مراراً على شؤون داخلية وعلى تحالف الطرفين كلٍّ من جهته مع الرئيس بري وفق مفهوم كلّ طرف. لكن هذه الخلافات كان يجري تطويقها أو على الأقل غضّ النظر عنها أو تأجيلها تحت شعار الاتفاق الاستراتيجي بين الطرفين: “هذه المعادلة كانت تصبّ فقط في مصلحة حزب الله. واليوم أيضاً في حال حصول تسوية ما، ستصبّ في مصلحته أيضاً لأن بعبدا مربكة هي وتيارها، لأنّهما من جهة لا يستطيعان الخروج من المبادرة الفرنسية كونها الفرصة الأخيرة لتعويم البقية الباقية من عهده، ومن جهة أخرى، لا يمكنهما التملّص من ضغط حزب الله”.
“عوائل الشهداء في المرفأ”، هل تكون هذه الوقفة أول وآخر الرسائل أم أنّ مسلسل الرسائل بين بعبدا وحارة حريك ما زال في بدايته؟