ليس غريباً أن يغرق عشرات الطرابلسيين وهم يحاولون “العبور”، هذه المرّة إلى قبرص، وليس إلى “الدولة”، بعدما يئس سكّانها وأهلها من كلّ احتمال، واستسلم كثيرون منهم. كما لو أنّ ثورة “17 تشرين” كانت الطلقة الأخيرة، في حروبهم ضدّ فقرهم وعوَزهم، وقرّروا بعدها أن يرموا أسلحة الأمل، وأن يتوجّهوا إلى “الموت الرحيم”، في المسافة الفاصلة بين شواطىء مدينتهم، وبين شواطىء قبرص، فإما يدخلون باب أوروبا، أو يموتون وهم يحملون شرف المحاولة.
إقرأ أيضاً: تسهيلات رسمية لقوارب الهجرة الطرابلسية
من مفارقات الأزمنة اللبنانية العصيبة، أن تكون طرابلس المدينة الوحيدة التي عاشت الحرب الأهلية ولم تخرج منها. وبينما يوشك لبنان على ولوج مرحلة جديدة من تاريخه بعد بلوغه مئويته الأولى، فإنّ الفيحاء عانت بعد سكوت المدافع، حروباً وجولاتِ قتالٍ وتفجيراتٍ وحصارات متواصلة، جعلتها المدينة الأكثر فقراً على ساحل البحر الأبيض المتوسط وحوّلت أهلها رهائن التداعيات المحلية والخارجية للأحداث، من دون أن تفقد يوماً بوصلتها الوطنية، ومن دون أن تتخلّى عن هويتها العربية والإسلامية المعتدلة.
كانت طرابلس ولا تزال، ضحيّة الجغرافيا السياسية وهي المدينة السُّنية الأقرب إلى سوريا، والتي لم يستطع حافظ الأسد تجاهل وزنها وهو العارف بتاريخها وقدراتها وبما تختزنه من طاقات بشرية وفرصاً استراتيجية لتكون مركزاً حيوياً فاعلاً في السياسة والاقتصاد والثقافة. لذلك، كان نصيبها من حقده عظيماً، وقد بدأ مسلسل الاستهداف المباشر في تشرين الثاني عام 1983 عندما فرَضَ عليها الحصار والتجويع ليحصد 1000 شهيد فلسطيني وخروجَ الراحل ياسر عرفات من المدينة.
ثورة “17 تشرين” كانت الطلقة الأخيرة، في حروبهم ضدّ فقرهم وعوَزهم، وقرّروا بعدها أن يرموا أسلحة الأمل، وأن يتوجّهوا إلى “الموت الرحيم”
صفحاتٌ سوداء استذكرها أهل طرابلس في الأيام الفائتة، واستعادوا ذكريات الصمود والتدمير التي شهدها شهر أيلول من العام 1985. ففي الرابع عشر منه بدأت الاشتباكات، وفي الخامس والعشرين منه شنّت الأحزاب التابعة لنظام الأسد، هجوماً واسعاً على طرابلس والميناء بأكثر من مليون صاروخ وقذيفة أحرقت ودمّرت أحياءً بكاملها ومحتها من الوجود، بأسلحة روسية “حديثة” جرى “تجريبها” ميدانياً بأهل الفيحاء.
وبعد حصارٍ استمرّ ثلاثة أسابيع دفع الأسد ميليشياته لاقتحام طرابلس لترتكب مخابراتـُه مجازر واغتيالات وإعدامات للمئات من الموقوفين، كان أبرزها اغتيال الشهيد خليل عكاوي (أبو عربي) في 9 شباط 1986 لتدخل المخابرات السورية بابَ التبانة وترتكب مجزرة رهيبة في كانون الأول 1986 فاق عدد ضحاياها الألف شهيد.
استمرّت أعمال القتل أياماً كانت تدور خلالها الفظائع في الشوارع وداخل الجدران التي اصطبغت بالدماء والصراخ والاستغاثات اليائسة، فكانت الأم ترى ابنها يذبح أمام عينيها، والزوجة ترى زوجها يُنحر أمام أولاده، وكان الاختباءُ بين الجثث وسيلة النجاة المتاحة، في ظلّ صمتٍ محلّي وعربي ودولي قاتل.
بعد انتهاء الحرب الأهلية، لم تحظَ طرابلس بفرصة دمج أعدادٍ من أبنائها في المؤسسات العسكرية والأمنية في إطار ما عرف باستيعاب الميليشيات، كما حجبت السلطةُ عن المدينة حقها في التعويض على الذين خسروا منازلهم ومحلاتهم، فبقيت مباني باب التبانة تعاني من التصدّعات في أساساتها حتى اليوم. ولم يكن للفيحاء حصة من إعادة الإعمار سوى ما استدركه الرئيس الشهيد رفيق الحريري من خلال المشروع الإسكاني الذي يحمل اسمه في منطقة القبة.
كانت طرابلس ولا تزال، ضحيّة الجغرافيا السياسية وهي المدينة السُّنية الأقرب إلى سوريا، والتي لم يستطع حافظ الأسد تجاهل وزنها وهو العارف بتاريخها وقدراتها وبما تختزنه من طاقات بشرية وفرصاً استراتيجية لتكون مركزاً حيوياً فاعلاً في السياسة والاقتصاد والثقافة
لم تشهد طرابلس استقراراً متواصلاً، بل إنها أصيبت بانتكاسة كبرى مع ظهور تنظيم “فتح الإسلام” الإرهابي وخوضه اشتباكات في شوارعها، مخلّفاً الدمار فيها وفي مخيم نهار البارد عام 2007، حاملاً بصمة النظام السوري وخطاً أحمر أعلنه الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله بوجه الجيش لمنعه من دخول المخيّم. وسرعان ما سقط الخطّ محلياً وإقليمياً ودولياً.
عادت خطوط التماس وتحوّل “مشروع الحريري” من جديد خطّاً للاعتداءات المتجدّدة التي شنتها ميليشيات علي ورفعت عيد على باب التبانة، وحصدت بين العامين 2011 و2014 قرابة 220 شهيداً وأكثر من 1500 جريح، قبل تطبيق الخطة الأمنية وإنهاء تلك المرحلة بمظالم كبيرة كثمن لإعادة الأمن. وفي 23 آب 2013 أضاف النظام السوري جريمة جديدة بتفجير مسجدي السلام والتقوى موقعاً 53 شهيداً ومئات الجرحى، وسط عجز قضائي وتعطيل سياسي لملاحقة التسلسل الجرمي الموصل إلى مكتب الرئيس السوري.
لم تسترح طرابلس مطلقاً، واستمرّت محاولاتُ وصمها بالإرهاب بالتوازي مع حرمانها من حقوقها في التنمية والتطوير، فتعرّضت لحصار سياسي اقتصادي متواصل، فرضه تحالف “حزب الله” والتيار الوطني الحرّ، حرمها من تحرير معرضها ومن تطوير مرفئها ومن تشغيل مطارها (مطار الشهيد رينيه معوض)، بل حُرمت من أدنى مقوّمات الحياة، بتقصير واضح من القيادات السنية وعلى رأسها الرئيس سعد الحريري والرئيس نجيب ميقاتي وبقية النواب.
لم يكن للفيحاء حصة من إعادة الإعمار سوى ما استدركه الرئيس الشهيد رفيق الحريري من خلال المشروع الإسكاني الذي يحمل اسمه في منطقة القبة
أعادت ثورة 17 تشرين الأول 2019 الألق إلى الفيحاء، لكنها كشفت في الوقت نفسه حجم الكارثة التي تعانيها المدينة المنكوبة، وكارثة انعدام الثقة بمن يحمل أمانة تمثيلها السياسي. إذ فقدت أيّ إمكانية للنجاة من موجات الإفقار المتتالية، وسمع اللبنانيون مؤخّراً كيف فضّل أبناؤها الفرار عبر قوارب الموت في محاولة للوصول إلى قبرص بطريقة خطيرة وغير شرعية، على الموت البطيء الذي يخطف حياتهم بالأمراض والمجاعة.
تعرّضت طرابلس للاحتلال السوري، فقتل أبناءَها ودمّر عمرانها، ولا تزال أعدادٌ من أبنائها في سجونه وآخرون مجهولي المصير. لم تعوِّض الدولة على الشهداء ولا الأسرى، بعكس الشهداء والأسرى في مواجهة العدو الصهيوني، رغم أن الأذى نفسه، لكنه الطغيان الذي يجعل القتل جائزاً لخطّ الممانعة ويحتكر وحده حقّ تحديد العدوّ، ويمنع الاعتراض على إجرام من سحقونا باسم العروبة.
اليوم، ينزلق لبنان ليكون كلّه “طرابلس كبيرة” فقيرة محاصرة ومشلولة القرار، تأكلها الفوضى ويحكمها سلاح “الفوضى المنظمة”، فتتداعى الدولة وتسود شريعة الغاب، لأنّ الحزب الحاكم تمكّن من نقل أعراض التفكّك والإفقار والاضطراب الأمني والاجتماعي إلى أكثر الأراضي اللبنانية. فمعظم المناطق أصابتها لعنة السلاح، حتّى بات اللبنانيون أسرى حالات الانفلات وتمادي “السرايا” (التنظيم العسكري السنّي التابع لحزب الله) والعصابات، والمشاهد تتوالى لهذا المرض العضال الذي يقتل الدولة ويطلق الفوضى التي على أساسها تقوم “ولاية الفقيه”.. فهل يستمرّ هذا الانزلاق، أمّ أنّ حواجز المناعة الوطنية ستكون كفيلة بوقف التدمير الممنهج للبلد؟