كلّ يوم صباحاً يترك منزله، وعائلته، يودّع زوجته على الباب، ويقول لها: “وصيتي الأولاد، دايماً اعتبري إنّي مش راجع”. ينطلق إلى مكان عمله في مطار رفيق الحريري الدولي. وهذه حالة كثيرين من العاملين في المطار، بحسب هذا الشاب.
إقرأ أيضاً: سيناريو “التلحيم” ينفّذ غارة جديدة على مرفأ بيروت
هذه هي الحالة النفسية المرافقة ليوميات العاملين في مطار العاصمة. فهم يتوقّعون شرارة صاروخِ حديد أو جمرة تلحيمٍ من “شليمونة” معلّم تلحيم طائش أو مدسوس تعلّم “ألف، باء” المهنة على “يوتيوب”، تولّع المكان بمن فيه، فتعيد ذكريات ومآسي مرفأ بيروت وجراحه التي لم تندمل.
درس يومي يمليه موظف أو عامل المطار على ولده أو أمه أو زوجته قبل كلّ وردية له في المطار. يقرأ درساً من التوصيات على مسامع شريكة حياته ومآسيها اللبنانية قبل الخروج من البيت: “لا تفتحي الباب لأحد، وابتعدي أنت والأولاد عن الشرفات، ولا تطلّوا إذا سمعتم أصواتاً أو صراخَ عراكٍ في الحي، إذا شاهدتِ أيّ حدث أمني من أيّ نوع كان في المطار خلال وجودي هناك، اتصلي بعائلتك، وأبلغي والدي…”.
هذه هي الحالة النفسية المرافقة ليوميات العاملين في مطار العاصمة. فهم يتوقّعون شرارة صاروخِ حديد أو جمرة تلحيمٍ من “شليمونة” معلّم تلحيم طائش تولّع المكان بمن فيه، فتعيد ذكريات ومآسي مرفأ بيروت
أن تعمل في مطار رفيق الحريري الدولي هذه الأيام، يعني أنك مقيمٌ داخل أهمّ معاقل “حزب الله”، في ضاحية بيروت الجنوبية. لعلّك في أحد مربعاته الأمنية غير المعلنة. كثير من الموظفين يقرّون أنّ جماعة “حزب الله” داخل المطار ليسوا قِلة. هم مقاتلون وعناصر مدرّبة في صفوفه، وفي الوقت نفسه هم موظفون في المطار بتراتبيات متفاوتة، من المدير الإداري إلى الحمّال. ينخرطون في هذه الوظائف من أجل تقديمات الضمان الاجتماعي وتعويضات نهاية الخدمة التي ربما لا تؤمّنها مؤسسات الحزب، ثم بحجة هذا كله يحصل الحزب على “عيون” في أهمّ مرفق حيوي في الدولة. مرفق يدلّه إلى كلّ غادٍ ويخبره عن كلّ مقبِل.
قبل نحو أسبوعين، زادت الأجهزة الأمنية في المطار من منسوب إجراءاتها، وطلبت من الموظفين توخّي الحذر في تحرّكاتهم وتنقلاتهم بين الأقسام والأبنية العائدة لحرم المطار. وكذلك الإدارات المختلفة، أصدرت أوامر “شفهية” بزيادة الحذر الأمني، وامتنعت عن إصدار أوامر مكتوبة لأسباب غير معلنة. أما عن السبب، فذلك يخصّ أمن المطار وسلامة المسافرين وزوّار البلد. ومن المؤكد أنّ الأمر على علاقة بالمخاوف وحال الرعب التي نتجت عن تفجير مرفأ بيروت، وربطاً بالتهديدات التي ما انفكّ العدوّ الإسرائيلي يُطلقها ضد “حزب الله”، لا تخلو منذ مدّة من الإشارة إلى مطار رفيق الحريري الدولي ومحيطه، كأماكن محتملة لتخزين أو تمرير أسلحة أو أجهزة على علاقة بأسلحة “حزب الله” الدقيقة.
قبل نحو أسبوعين، زادت الأجهزة الأمنية في المطار من منسوب إجراءاتها، وطلبت من الموظفين توخّي الحذر في تحرّكاتهم وتنقلاتهم بين الأقسام والأبنية العائدة لحرم المطار
الكلّ في المطار يتحدّث وفق المنطق نفسه، بين المزح والجدّ يسألون أنفسهم: هل يُعقل أنّ يأتي دورنا بعد المرفأ؟ فيتحزّرون إن كانت الضربة أو “التلحيمة محتملة”، ستطال ساحة المطار أو قسم شحن أو.. أو…أو.
وللمصادفة، فقد انتشر قبل أيام، خبر حريقٍ جديد، أو “تلحيمة”. المكان هذه المرة كان المطار، فضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالصور والفيديوهات والتكهّنات الممزوجة بالرعب والترقّب لانفجار محتمل يلي الحريق على طريقة مرفأ بيروت، ليتبيّن بعد ساعات أنّ الدخان الأبيض عبار عن حريق طفيف، ومصدره حرارة زائدة في محركٍ لمولد كهربائي (GPU أو Ground power unit) يغذّي الطائرات بالتيار الكهربائي بعد الهبوط وقبل الإقلاع.
هذا الخوف ما عاد ملازماً للعاملين في مرافق الدولة الحساسة فحسب، بل بات يطاول كلّ المواطنين. أنا واحد من هؤلاء، إذ كنت أتحضّر لتوصيل عائلتي إلى المطار، حينما بلغني خبر الحريق قبل موعد إقلاع الطائرة بساعات، فعاد لاشعورياً شريط أحداث مرفأ بيروت في مخيّلتي: هل ينفجر بنا المطار؟ هل ينسفون الطائرة؟ ما هو طاعون هذه الدولة التي نعيش فيها؟
في العادة، يشكل أيّ مطار في دول العالم كلها، “محطة سعادة”. أناس مقبلة إلى مكان تحبه وتتوق للتعرّف إليه، أو أناس أخرون يغادرون سعياً للكسب والرزق أو بداعي السياحة والترفيه. الانفعالات الناتجة من هذه الحالات لا تراها مرسومة على الوجوه في مطار رفيق الحريري الدولي أبداً. وجوه كالحة ومكفهرّة ومعجونة بالغضب والبؤس، موظفون يخاطبونك بانكسار، ظاهرُه لؤمٌ وباطنُه يأسٌ وانكسارٌ… لبئس الورد المورود، ولبئس عيشة الضنك التي نعيشها في هذه المزرعة!