هل يقرأ التاريخ من أحرق مرفأ بيروت فانفجر، ثم أحرقه مرة أخرى، وأحرق غيره، بأداة تلحيم، أم هي مصادفة عجيبة، تتكرّر كلّ عقدين أو أربع، على يد مجهولين، ولأهداف مجهولة أو من دون أيّ غرض، فتؤدي الحرائق الغامضة دائماً إلى تحويل مسار التاريخ؟
إقرأ أيضاً: أحرقوا زها حديد في بيروت… والمحافظ لـ”أساس”: لا تلحيم بعد اليوم!
في 27 شباط عام 1933، وبعد أقل من شهر على تعيين أدولف هتلر مستشاراً لألمانيا، احترق الرايخستاغ (البرلمان). وقد يرمز الحريق إلى اعتراض جهة ما على نتائج الانتخابات النيابية التي جاءت بالحزب النازي إلى السلطة. توجّهت الأنظار فوراً إلى المعارضة، وإلى الحزب الشيوعي، لا سيما بعدما اعتقل المتهم وهو هولندي شيوعي سابق، يدعى مارينوس فان دير لوبه. اعتبر النازيون حريق البرلمان مقدّمة لثورة شيوعية أو انقلاب، فجعلوه ذريعة لحملة واسعة النطاق ضدّ معارضيهم ولا سيما منهم الشيوعيين. بدأت الحملة مساء يوم الحريق، باعتقال عدد كبير من الشيوعيين، ومن بينهم نواب في البرلمان. وحتّى شهر نيسان من العام نفسه، بلغ عدد المعتقلين نحو 25 ألف شخص. تعرّض المعتقلون للتعذيب، وبعضهم قضى نحبه. وأصدرت الحكومة مرسوماً للدفاع عن ألمانيا، فكُبتت حريات الرأي والتجمّع والصحافة. حُظرت صحف المعارضة، وأُلغيت سرية المراسلات البريدية والاتصالات. ومُنحت الحكومة المركزية في برلين سلطة التدخل في شؤون الولايات. كان الحريق خطوة أولى نحو الاستبداد النازي بألمانيا. وهذا ما أثار الخلاف بين المؤرخين لاحقاً حول من أحرق البرلمان حقاً، الشيوعيون أم النازيون أنفسهم؟ (Martyn Whittock, A Brief History of The Third Reich)
في 26 كانون الثاني 1952، وقبل ستة أشهر تقريباً من انقلاب الضباط الأحرار على الملك فاروق. احترقت القاهرة، بالمؤسسات ودور السينما والفنادق والمحالّ التجارية والمقاهي والمطاعم والمصارف ومكاتب الطيران، وسقط فيها حوالى 50 مصرياً و9 أجانب. وتزامن الحريق مع احتفال الملك بمولوده الجديد. لا أحد يعرف الجهة المسؤولة عن الحريق، وما هو الهدف، بحسب ما يتبيّن من مذكّرات اللواء محمد نجيب (“كنتُ رئيساً لمصر“)، وهو كان زعيم الضباط الأحرار، والرئيس الأوّل للجمهورية قبل خلعه، على يد جمال عبد الناصر. يقول نجيب: (اختلفت الآراء، فثمّة من اعتبره من تدبير الشيوعيين كما هو حال حريق بوغوتا (عاصمة كولومبيا في أميركا الجنوبية). مؤامرة بريطانية، أو من حزب الوفد الحاكم، أو من القصر للتخلّص من حكومة الوفد، وتعطيل البرلمان. لكن الحاصل أنّ ذلك اليوم كان يوم نهاية الملك فاروق)، فجاءت ثورة الجيش أو انقلابه بعد أشهر، كنتيجة طبيعية.
هل دخلنا نفق التغيير نحو نظام جديد عبر دخان الحرائق، أم يراد تشديد قبضة النظام القديم بقطع أواصر لبنان بمحيطه العربي؟
في 19 آب عام 1978، وفي الذكرى الـ 25 للانقلاب المدعوم أميركياً على رئيس الحكومة مصدّق، وكانت المعارضة الإيرانية تشتدّ ضدّ حكم الشاه. أُحرقت سينما مكتظة بالروّاد (بين 650 و700 شخص) في مدينة عبدان. كان الحريق متعمّداً، والأبواب مغلقة، فسقط أكثر من 430 شخصاً، كثير منهم بسبب الدخان. ولا أحد يعرف العدد الحقيقي للضحايا، ولا الجهة التي أحرقت السينما. لكن يقول الدبلوماسي الإيراني السابق داريوش بياندور، إنّ المتدينين من أتباع حركة “فدائيي الإسلام” دأبوا على إحراق دور السينما في الستينيات والسبعينيات. علماً انّ سينما ريكس في عبادان، كانت تعرض فيلماً درامياً بعنوان Gavazn’ha أو “الغزلان”، لمخرج يساري مشهور هو سعيد كيميائي. وموضوع الفيلم عن لص اختبأ عند صديقه، فتبيّن له أنه مروّج مخدّرات. الفيلم من إنتاج عام 1974، وبطله محبوب في إيران. أي لا داعي لمجزرة من أجل فيلم قديم عبارة عن دراما، ناقد ضمناً للفساد الاجتماعي. الآثار السياسية كانت كارثية على الشاه. فقد التقطت المعارضة الإسلامية هذه المناسبة لاتهام جهاز الأمن (السافاك) بتدبير الحريق لتشويه صورتها. تصاعدت شعبية المعارضة إلى الذروة، وتدنّت صورة الشاه إلى الحضيض. هرب الشاه من إيران بعد أربعة أشهر، وعاد الإمام الخميني إلى طهران منتصراً في 1 شباط عام 1979. (Darioush Bayandor,The Shah, the Islamic Revolution and the United States)
فهل يوحي مسلسل الحرائق الغامض في بيروت، بسيناريوهات ونظريات، بل بأحداث قد تكون مفصلية سياسياً؟
في البدء، ليس من شكّ أنّ ما قبل 14 تشرين الأول 2019 غير ما بعد ذلك التاريخ في لبنان. فالحريق الهائل في أحراج الدبية بمنطقة الشوف وصولاً إلى التلال المشرفة على الساحل، والعجز الفاضح لأجهزة الدولة، مهّد المناخ النفسي الشعبي لثورة عارمة بعد 3 أيام فقط احتجاجاً على ضريبة الواتساب (6 دولارات شهرياُ)، وثمّة شكوك في الحريق نفسه، هل كان مجرّد إهمال، بل لعلّ أحدهم كان يستعمل مبكّراً آلة تلحيم كذلك!
بات لزاماً إعادة قراءة تسلسل الأحداث بالعكس، لتظهير الصورة الأكثر معقولية لأحداث تفتقر ظاهرياً إلى أدنى قدر من العقل
فيما حريق المرفأ في 4 آب، والذي كان الصاعق لأكبر قنبلة في تاريخ لبنان والمنطقة، هو علامة فارقة بين زمنين، ما قبل وما بعد، فنزلت شعبية العهد إلى الحضيض. فهل الحرائق اللاحقة في المرفأ كذلك، وفي غيره من معالم بارزة في العاصمة تحديداً، وللسبب نفسه (التلحيم)، مجرّد سوء حظ؟ ولم لا تكون استكمالاً للانفجار الأول وتعزيزاً لمفاعيله، أو ارتداداً عكسياً لمحو آثار الأول بضربة مضادة أو هزّات استرجاعية؟
بات لزاماً إعادة قراءة تسلسل الأحداث بالعكس، لتظهير الصورة الأكثر معقولية لأحداث تفتقر ظاهرياً إلى أدنى قدر من العقل. بعبارة أخرى: هل دخلنا نفق التغيير نحو نظام جديد عبر دخان الحرائق، أم يراد تشديد قبضة النظام القديم بقطع أواصر لبنان بمحيطه العربي؟