باتت مسألة وقت قبل توقّف الدعم المباشر من قبل مصرف لبنان لاستيراد السلع الحيويّة، والانتقال إلى أشكال أخرى من دعم الاستهلاك. فمصادر مصرف لبنان أكّدت لـ “أساس” أنّ المجلس المركزي للمصرف قرّر رسمياً، في آخر اجتماعاته، التوجّه نحو اعتماد البطاقات التموينيّة لدعم استهلاك هذه السلع على مستوى الأفراد، بدل توفير الدولارات المطلوبة لاستيرادها من احتياطي العملات الأجنبيّة المتبقية لدى المصرف المركزي. ولذلك، تمّ الإيعاز لمجموعة من الخبراء والتقنيين للقيام بالدراسات المطلوبة لتحديد آليّة عمل هذه البطاقات وطريقة توفير الدعم من خلالها، بالإضافة إلى حجم السيولة المطلوب توفيرها في المرحلة الأولى لنجاح المشروع. مع العلم أنّ السلع المعنيّة بهذا المشروع هي: المحروقات، والقمح، وبعض السلع الغذائيّة الأساسيّة، فيما ظلّ ملف دعم استيراد الدواء بالتحديد قيد البحث، لارتباطه بسلع مكلفة وضروريّة قد لا تنسجم مع مبدأ البطاقة التموينيّة.
إقرأ أيضاً: “زلزال” وقف الدعم: الخبز بـ6500 والبنزين بـ100 ألف ليرة
أهم ما في الموضوع هنا هو أنّ مصرف لبنان يخطّط من خلال فكرة البطاقات التموينيّة لرفع كلفة وعبء الدعم عن احتياطي العملات الأجنبيّة المتبقّي لديه بشكل تدريجي، ونقله إلى الحكومة. فخلال المرحلة الأولى، سيقوم مصرف لبنان بتوفير الدولارات المطلوبة لشراء السلع الحيويّة في هذه البطاقات، وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم، فيما ستوفّر هذه البطاقات لجميع المواطنين من خلال النظام المصرفي. على أن تتولّى الحكومة بنفسها النظر في المصادر الكفيلة بتوفير هذه الدولارات. مع العلم أنّ جميع التقديرات تفيد حاليّاً بأنّ نقل عبء هذا الدعم إلى الحكومة لا بدّ أن يكون خلال مدّة زمنيّة قصيرة، قد لا تتجاوز الشهرين، بالنظر إلى وتيرة استنزاف احتياطي مصرف لبنان، واقتراب وصوله إلى الحدّ الأدنى الذي حدّده الحاكم، والذي يوازي قيمة الاحتياطات الإلزاميّة التي أودعتها المصارف لديه.
عمليّاً، سيكون لدى الحكومة بديل آخر، وهو توفير الدعم بالليرة اللبنانيّة، في حال الفشل في تأمين الدولارات المطلوبة للاستمرار في الدعم
وستكون الوظيفة الأولى لهذه البطاقات، التمهيد لانسحاب مصرف لبنان من مهمّة تأمين دولارات الدعم، وهو ما سيوقف لاحقاً استنزاف الاحتياطات الذي جرى طوال المدّة الماضية، على أن يستمر في الإشراف على مشروع البطاقات التموينيّة في شقّه التقني المصرفي فقط. لكنّ التحدّي الأساسي هنا سيكمن في قدرة الحكومة على توفير السيولة المطلوبة بالعملة الصعبة لإنجاح المشروع على المدى الطويل، خصوصاً أنّ فشل الحكومة في توفير هذه السيولة قد يعني لاحقاً توقّف الدعم، والدخول في دوامة من الأزمات الإجتماعيّة الكبيرة. ولهذا السبب، من المتوقّع أن يشكّل هذا المسار بالتحديد ضغطاً إضافياً على الحكومة المقبلة، لإنجاح عمليّة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، الذي يمثّل حاليّاً الرهان الأساسي للبنان للحصول على جرعات دعم نقديّة بالعملة الصعبة. ولهذا السبب، سيكون بقاء الدعم مرتبط بشكل أساسي بنجاح الحكومة في تنفيذ الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي.
عمليّاً، سيكون لدى الحكومة بديل آخر، وهو توفير الدعم بالليرة اللبنانيّة، في حال الفشل في تأمين الدولارات المطلوبة للاستمرار في الدعم. لكنّ مصادر مصرفيّة تؤكّد لـ”أساس” أنّ هذا الخيار سيعني الدخول في أتون من التضخّم المفرط وغير العقلاني، خصوصاً أنّه سيؤدّي إلى طباعة كميات ضخمة من النقد التي ستتحوّل إلى طلب على الدولار في السوق الموازية لتمويل استيراد هذه السلع. ولذلك، ثمّة الكثير من الآراء التي تشير إلى أنّ هذا الخيار سيمثّل انتحاراً نقدياً إذا اختارت الحكومة المقبلة التوجّه نحوه، خصوصاً على مستوى سعر صرف الليرة اللبنانيّة وحجم النقد المتداول في السوق.
الوظيفة الثانية للبطاقات التموينيّة ستكون فتح الباب لترشيد الدعم وتقنينه. فخلال المرحلة الأولى، يخطّط مصرف لبنان لتوفير دعم الاستهلاك من هذه البطاقات لجميع المواطنين، لكنّ الخطّة المطروحة حاليّاً تقضي بالدخول لاحقاً في مسار يفضي إلى توجيه الدعم تدريجيّاً لصالح الفئات الاجتماعيّة الأكثر حاجة. مع العلم أنّ هذا النوع من الترشيد يقتضي وجود حكومة قادرة على صياغة خطّط تحدّد معايير وآليّات معيّنة لتحديد الفئات الأكثر حاجة للدعم، وهو ما يبرّر تأجيل هذه الخطوة للمرحلة الثانية من المشروع ريثما تُشكّل الحكومة الجديدة.
الإشكاليّة الأخرى ستتعلّق بآليّة ترشيد الدعم في المرحلة اللاحقة، وبطريقة تحديد الفئات الأكثر حاجة له، دون أن تدخل على الخط اعتبارات المحسوبيات والواسطة
في كلّ الحالات، يبدو أنّ مشروع البطاقات التموينيّة يواجه حتّى اللحظة عثرات وتحدّيات عديدة. أهم تلك التحديات يتعلّق بآليّة طلب وتوزيع هذا الحجم الكبير من البطاقات التموينيّة المصرفيّة على جميع المواطنين اللبنانيّين في المرحلة الأولى، مع الحفاظ على مستوى مقبول من الضوابط المصرفيّة التي تمنع إساءة استعمال هذه البطاقات. مع العلم أن نسبة الشمول المصرفي، أي نسبة المواطنين الذي يملكون حسابات مصرفيّة، لا تتخطّى في لبنان مستوى الـ 43%. ولذلك، ثمّة شكوك كبيرة في قدرة الفروع المصرفيّة على استيعاب هذا الحجم الضخم والمستجدّ من العمليّات البيروقراطيّة دفعة واحدة فور الانتقال إلى الشكل الجديد من الدعم. وبالإضافة إلى ذلك، يقتضي استعمال البطاقة التموينيّة وجود ماكينات الدفع الإلكتروني في جميع المحلات التجاريّة التي توفّر السلع الغذائيّة الأساسيّة، وهي مسألة ستمثّل تحدّياً كبيراً من جهة القدرة على تجهيز العدد الكبير من المتاجر التي لا تملك هذا النوع من الماكينات حاليّاً.
الإشكاليّة الأخرى ستتعلّق بآليّة ترشيد الدعم في المرحلة اللاحقة، وبطريقة تحديد الفئات الأكثر حاجة له، دون أن تدخل على الخط اعتبارات المحسوبيات والواسطة. فمن المعلوم أنّ جميع المبادرات الرسميّة السابقة، والتي تضمّنت أيّ نوع من المساعدات أو التقديمات الاجتماعيّة، دخلت سريعاً في بازار المحاصصة وتوزيع المنافع على المناصرين. ومن الطبيعي أن تثير فكرة ترشيد الدعم وتحديد فئات معيّنة للاستفادة منه جميع الهواجس المتعلّقة بالمعايير والآليّات التي ستُعتمد. مع العلم أنّ الإدارة الضريبيّة في لبنان تُعدّ من الإدارات الضريبيّة الضعيفة من ناحية شموليّة المعلومات المتوفّرة لديها، وهو ما يفقد مشروع البطاقات التمويليّة القدرة على الاعتماد عليها لتحديد معايير معيّنة لترشيد الدعم.
أمّا التخوّف الأكبر، فيتعلّق بإحتمالات فشل هذه المشروع بأسره لاحقاً إذا أساءت الحكومة القادمة مقاربته، على النحو الذي فشل فيه ملف دعم السلّة الغذائيّة. فهذه المرّة، ستكون الكلفة أعلى، خصوصاً أنّ الملف يشمل اليوم القمح والمحروقات، بالإضافة إلى السلع الغذائيّة، وهو ما سيضاعف نسبة القابعين تحت خط الفقر.